صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب "الموانئ والثغور المصرية من الفتح الإسلامى حتى نهاية العصر الفاطمى" من تأليف الدكتورة صفاء عبد الفتاح، والكتاب موضوعه صعب ومادته قليلة، لكن الباحثة غاصت بعمق فى المصادر لاستقراء مادته، وهو ما يحسب لها، لكن يغيب عن الكتاب المكتشفات الأثرية ودلالتها، وأوراق البردى العربية والقبطية وأوراق الجنيزة، هذا كله كان من الممكن أن يجعل هذه الدراسة غير مسبوقة.
بالرغم من ذلك قدمت الدكتورة صفاء عبد الفتاح مجهودا أثمر نتائج جديدة، لكننا سنقف معها عند تصنيفها موانئ مصر فى الحقبة موضوع الدراسة:
أولاً: الموانئ والثغور المصرية على ساحل بحر الروم (البحر المتوسط)
تقع هذه الموانئ فى منطقتين
الأول فى الركن الشمالى الشرقى وتضم ثلاثة ثغور هى الفرما وتنيس ودمياط وتشترك هذه الثغور الثلاثة فى وقوعها على بحيرة تنيس (المنزلة)، وهى إحدى بحيرات مصر الشمالية، وسميت ببحيرة تنيس تجاوزا، لأنها فى الحقيقة كانت عبارة عن ثلاثة بحيرات اتصلت ببعضها فظهرت كما لو كانت بحيرة واحدة، وكانت البحيرة الغربية تسمى بحيرة دمياط والبحيرة الشرقية تسمى بحيرة تنيس، كما سميت الأطراف الشرقية لبحيرة تنيس باسم بحيرة الزار التى وصلت فى امتدادها إلى الفرما.
ساعدت بحيرة تنيس على سهولة الاتصال بين الموانئ الثلاث فهى تمتد شرقاً إلى الفرما، وتمتد غربًا إلى دمياط، وتنيس جزيرة بينهما، وكانت هذه الجزيرة متصلة بنهر النيل، كان يصب فيها فرع النيل التنيسى الذى كان يتفرع خارجاً إليها من فرع دمياط قبل أن يصل إلى مدينة دمياط، كما كان يفصل البحيرة عن البحر.
رشيد
تقع على فرع النيل الغربى المسمى بفرع رشيد، حيث يصب فى البحر من خلال فوهة تعرف بالأشتوم، وموضع رشيد يبرز فى الساحل كما هو الحال فى دمياط، نتيجة لتراكم رواسب النهر على ساحل البحر، الذى تقع عليه إلى الغرب من دمياط، وتبعد رشيد بموقعها عن ثغر الإسكندرية بنحو ستة وثلاثين ميلا فى شمالها الشرقي.
ورشيد من الموانئ القديمة، فقد ذكرت فى حوادث الفتح العربي، لمصر إلا أنها لم تكن قائمة فى موقعها الحالى حتى بداية القرن الأول الهجري، إذ أن البلدة القديمة كانت تقع إلى الشمال من رشيد الحالية.
استمدت رشيد أهميتها فى العصر الإسلامى من موقعها على فرع رشيد وما ييسره هذا الموقع من اتصال بداخل البلاد، حيث كان نهر النيل من سبل المواصلات المهمة فى العصر الإسلامى، كما أن وقوعها على الطريق الزراعى الذى كان يمتد إليها من رأس الدلتا حيث العاصمة، ثم يتجه بعد وصوله لرشيد محاذيا الساحل إلى الإسكندرية، ما جعل الإسكندرية تطغى عليها وتجعل منها ميناء ثانويا بالنسبة لها، وفضلا عن هذا فإن رشيد بموقعها فى الشمال الغربى لساحل بحر الروم كانت أبعد من دمياط التى تقع على الركن الشمالى الشرقى عن مركز الدولة الإسلامية فى آسيا مما قلل من أهميتها، كما تميزت دمياط عليها بشهرتها فى صناعة النسيج.
لم تكن رشيد بالمدينة الكبيرة فيصفها ياقوت قائلاً: "بليدة على ساحل البحر والنيل" ويصفها ابن حوقل بقوله: "كانت بها أسواق صالحة وحمام وبها نخيل كثير، وارتفاع واسع، وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية، ويحمل إليها من متاع البحر إلى سائر أسباب التجارة" وتزايدت أهمية رشيد خلال العصر الفاطمى فيصفها الإدريسى كمدينة متحضرة بها سوق وتجار ونفقة وبها المزارع وبها الغلات من الحنطة والشعير وأنواع من الفواكه كما يذكر صيد السمك بها وأهميته وأنه يحمل منها لجميع الجهات.
الإسكندرية
شيدها الإسكندر الأكبر عام 332 ق.م وسماها باسمه، وأقامها فى الموقع الذى كانت تشغله قرية صغيرة تسمى راقودة، كان فى واجهتها وبالقرب منها جزيرة صغيرة فى بحر الروم تعرف بجزيرة فاروس Pharos فوصلت القرية بالجزيرة عن طريق بناء لسان طويل يربط بينهما، وقدر طول هذا اللسان بحوالى 1200م، وعلى الطرف الشمالى الغربى بنيت منارتها الشهيرة، التى تعد من عجائب الدنيا السبع، وبلك أصبح للإسكندرية ميناء شرقى وميناء غربي.
وتعد الإسكندرية من أهم الموانئ الواقعة على ساحل بحر الروم، وهى آخر ميناء لمصر على ساحل هذا البحر من الناحية الغربية، ولهذا فهى تقع على الطريق الساحلى المتجه إلى شمال أفريقيا، الممتد من برزخ السويس شرقا إلى فارس فى أقصى الغرب.
اتصلت الإسكندرية بداخل البلاد عن طريق ترعة ويلة امتدت إليها من النيل، وأطلق عليها فى العصر الإسلامى خليج الإسكندرية، وبفضل هذا الموقع كانت الإسكندرية أهم محطة بحرية فى شرق بحر الروم فى العصر الإسلامي.
ترجع أهمية الإسكندرية إلى ما قبل الإسلام، فقد كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية، وإن تفوقت عليها من حيث أهميتها التجارية، وقد خططت مدينة الإسكندرية تخطيطا منتظما، فطرقاتها مستقيمة تتقاطع مع بعضها مما يجعل للمدينة شكل رقعة الشطرنج، وكان يقام بمبانيها أعمدة رخامية، ذات ألوان وأشكال مختلفة، ويظهر مدى جمال الإسكندرية، وكبر حجمها وعظمة مبانيها، وكثرة سكانها عند الفتح العربي، من وصف عمرو بن العاص لها فى خطابه، الذى أرسله للخليفة عمر بن الخطاب بعد فتح هذه المدينة فيقول: "أنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف بينة وأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك"، وكانت المدينة محاطة بالأسوار الضخمة والحصون العظيمة لحمايتها.
وبفتح العرب مصر فقدت الإسكندرية أهميتها السياسية، لأنها لم تعد عاصمة للبلاد المصرية، فقد اتخذ عمرو بن العاص الفسطاط عاصمة لمصر، وتغير بذلك وضع الإسكندرية، فبعد أن كانت همزة الوصل مع بلاد الروم أصبحت نقطة الفصل، وبذلك أصبحت ثغرا أى حدا فاصلا مع العدو وجبهة يمكن أن يطرقها الروم بأساطيلهم.
تتضح أهمية الإسكندرية من وصف المؤرخين لها، فيصفها ابن حوقل بقوله: "رسومها بينة وآثر أهلها ظاهرة تنطق عن ملك وقدرة، وليس بجميع الأرض لمنارتها نظير يدانيها أو يقاربها فى أشكالها ومبانيها وعجائبها، ويذكر المقدسي، أن أهل الإسكندرية يعتمدون فى شئونهم على صهاريج تملأ فى موسم الفيضان" ثم يصفها بأنها "جليلة الرستاق جيدة الفواكه والأعناب، طيبة نظيفة، بناؤها من الحجارة البحرية معدن الرخام، وفى نواحيها خرنوب وزيتون ومزارع" ويصفها ابن جبير فى أواخر العهد الفاطمى بحسنها واتساع مبانيها وعلوها، ثم يصف أسواقها الحافلة بأنواع المتاجر.
الموانئ المصرية على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر)
يمتد الحد الشرقى لمصر على ساحل بحر القلزم، فيبدأ الساحل جنوبا من ميناء عيذاب، ثم يمتد إلى ميناء القصير ثم إلى ميناء القلزم فى الشمال، ثم ينعطف إلى شبه جزيرة سيناء إلى ساحل بحر الروم ما بين رفح والعريش.
اختلف المؤرخون فى تفسير كلمة قلزم فيذكر أبو صالح الأرمنى أن تفسيرها هو "حبل المنسج الذى يمسك الثوب واسمه قلزم"، ويقول جاستون فيت أن أبا صالح مخطئ فى تفسيره هذا، لأنه خلط بين كلمتين يونانيتين الأولى معناها حبل المنسج، والثانية معناها ارتطام المياه بالصخور، ويرجح المعنى الثانى فى تفسير كلمة قلزم. أما المقريزى فيذهب فى تفسيره إلى أن القلازم هى الدواهى والمضايق، ومنها بحر القلزم، لأنه مضيق بين جبلين، ويذكر ناصر وخسرو أن بحر القلزم كان يسمى بكل مدينة تقع عليه، فأحيانا يسمى بحر القلزم، وأحيانا يسمى بحر عيذاب.
استمدت موانئ مصر التى تقع على بحر القلزم أهميتها من أهمية بحر القلزم فقد كان همزة الوصل بين مصر والجزيرة العربية وبلدان الشرق الأقصى قديما، وزادت تلك الأهمية بعد الفتح الإسلامى لمصر فأصبح أشبه ببحيرة إسلامية تصل مصر بمركز الدولة الإسلامية فى الحجاز فكان لمصر ثلاث موان هامة تقع عليه هى القلزم والقصير وعيذاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة