"القلوب تحيا بحب الوطن وليس داخله".. هذا هو الوصف الأمثل لرحلة الفتاتين المصريتين عطاء الله وشيماء، اللتين ولدتا وعاشتا وترعرعتا فى الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك قادتهما حكايات الوالد عن مصر ودفئها وعظمة شعبها، إلى العودة إليها لاستنشاق عبقها، فى رحلة العودة إلى حضن الوطن.
فى يوم جديد من تلك الرحلة، قالتا الفتاتان: "أنهينا زيارتنا للمتحف المصرى فى تمام الثانية ظهرا، وكانت الأهرامات وجهتنا الثانية، الطريق استغرق ساعة تقريبا، قضينا أغلبها فوق الطريق الدائرى"، ظلت "شيماء" تنظر إلى المبانى والعمارات على جانبى الطريق، مندهشة من أن تلك العقارات التى تخيلت أنها ما زالت تحت الإنشاء، مشغولة بالسكان، وأن عملية إنشائها وقفت عند هذا الحد، وتعجبت من أغلب المبانى السكنية التى تراها على الحال نفسها.
"فى الطريق فكرنا فى تناول أى وجبة سريعة"، سألت نفسى ماذا يمكن أن تأكل الفتاتان، لكنهما أنهتا حيرتى بأنهما تريدان "شاورمة"، وقبل أن أعلق على الاختيار، قالتا: "لولا ضيق الوقت لكنا طلبنا أن يكون غداؤنا المحشى والملوخية"، وقبل أن أعلق قاطعتنى شيماء: "كل سيدة فى مصر ترى أنها تطبخ المحشى والملوخية الأفضل على الإطلاق"، وتابعت ضاحكة: "بالتأكيد أنت أيضا ترى أن والدتك صاحبة المحشى الأفضل".
لم تستطع عطاء إكمال ساندوتش الشاورما الخاص بها، وقبل أن أطلب منها استكماله، قالت: "أنا أريد أن أعطيه لأحد الكلاب، فما أكثرهم فى الشوارع"، فقلت لها: "قد لا نجد داخل منطقة الأهرامات".
شيماء وعطاء الله تلتقطان صورة أمام هرم خوفو بمجرد وصولهما لمنطقة الأهرامات
بعد ساعة وسط مرور الجيزة وزحام الطريق الدائرى، وصلنا إلى مدخل منطقة الأهرامات، هناك استقبلنا أحد المرشدين السياحيين، وبدأ معنا الزيارة بالهرم الأكبر، أول ما صادفنا فى الرحلة من تفاصيل كان أحد الكلاب الضالة داخل منطقة الأهرامات، نظرت "عطاء" إلىّ بابتسامة، وذهبت إلى الكلب ووضعت أمامه ما تبقى معها من طعام، ثم استكلمنا السير باتجاه الهرم الأكبر.
الزميل تامر إسماعيل وشيماء وعطاء الله فى طريقهم لغرفة الهرم الأكبر
داخل الهرم الأكبر، وقفت الفتاتان المنبهرتان بأجواء الحضارة المصرية القديمة، تستمعان لحكايات بناء الأهرامات، ورغم أن المرشد قال لنا إن دخول غرفة الهرم الرئيسية يستدعى مجهودا شاقا، وإن الغرفة الآن فارغة، إلا أن عطاء الله وشيماء أصرتا على الدخول ورؤيتها من الداخل، وبذلتا فى سبيل ذلك مجهودا شاقا، على الأقل بالنسبة لفتاتين مرفهتين وذات تركيبة غربية وديعة.
أحد المردشين السياحيين يشرح لشيماء وعطاء الله أسرار بناء الأهرامات
خرجنا من الهرم الأكبر محاولين استجماع قوانا واستعادة طاقتنا، والتحرر من أسر الدهشة والأجواء الروحانية الساحرة التى شُحنت بها أرواحنا، تخيلت أن عطاء وشيماء ستكتفيان بذلك، إلا أنهما طلبتا استكمال الزيارة والذهاب لرؤية أبو الهول، وهنا طلب منى المرشد أن نستأجر "كارتة"، لأن الطريق طويل ودرجة الحرارة مرتفعة وقد يرهقهما السير فى هذه الأجواء، وعند أصحاب "الكارتات" وقفنا نتفاوض حول السعر، حاول صاحب الكارتة مضاعفة قيمة الرحلة لعلمه بأن معنا فتاتين أمريكيتين، وأحست الفتاتان بذلك فأصرتا على الذهاب إلى "أبو الهول" سيرا على الأقدام لرؤية المنطقة كاملة.
شيماء وعطاء الله أمام مدخل الهرم الأكبر
فى الطريق وقفت "عطاء الله" أمام أحد الجمال، وعلى عكس صاحب "الكارتة" الذى ضاعف السعر وحاول استغلال الموقف، كان تصرف صاحب الجمل مختلفا تماما، عرض الرجل على "عطاء" ركوب الجمل والتصوير دون مقابل، وقال لها: "دى هدية من واحد مصرى"، وسعدت الفتاة بود صاحب الجمل وترحيبه، وقبلت الهدية لتعتلى الجمل وتلتقط بعض الصور فى حضرة حضارة الأجداد.
عندما وصلنا إلى منطقة أبو الهول، وقف المرشد يشرح لنا سر بنائه، كانت شيماء وعطاء منبهرتين بحجم التمثال وشكله وطريقة بنائه، وبالقصص التى يحكيها المرشد، ورغم أنهما كانتا قد قررتا ألا تلتقطا صورا أخرى، إلا أنهما تراجعتا سريعا عن هذا القرار، ربما لأنهما لم تستطيعا مقاومة حالة الدهشة والفضول والرغبة فى توثيق اللحظة الاستثنائية بالنسبة لهما، فلم تفوتا الفرصة دون تسجيل وقفتهما فى أجواء "أبو الهول"، ليكون بالفعل أكثر الأماكن التى التقطت فيها الفتاتان صورا تذكارية.
عطاء الله تصور الأهرامات بكاميرتها الشخصية
فى الخامسة والنصف مساء، كنا نتحرك من منطقة الأهرامات، كانت الوجهة التالية من اختيار عطاء الله، وهى منطقة القاهرة الفاطمية و"خان الخليلى"، تتحدث الفتاة التى لم تزر مصر من قبل عن المكان بحب وشغف كبيرين، فى الطريق لم تستطع "شيماء" إخفاء شعورها بقدر من الاستياء بسبب حالة الطرق وأجواء الزحام، معبرة عن شعورها بقدر من المعاناة، وأن حجم التلوث فى العاصمة يُرى بالعين المجردة، وفى سياق الحديث أشارت إلى أنها تشعر بأن هناك عدم وعى من المواطنين بكثير من السلوكيات السلبية، وأن السبب فى هذا حسب ما يبدو لها ربما يعود إلى التعليم غير الجيد، أو غياب الصرامة فى تطبيق القانون، إلا أنها فى نهاية النقاش أقرت السببين.
الزميل تامر إسماعيل وعطاء الله وشيماء والزميل المصور كريم عبد العزيز فى نهاية زيارة الأهرامات
وصلنا "خان الخليلى" بعد رحلة مواصلات طويلة نسبيا بالفعل، وأمام زحام المواطنين فى أجواء الحسين وخان الخليلى، سألت شيماء: "هل من الأمان أن تسير أجنبيات فى هذا الزحام دون مرافق؟"، فقلت لها دعينا نسير وأجيبينى أنت فى نهاية اليوم، ثم ظلت "عطاء الله" تبحث عن أحد الشوارع دون أن نفهم ما هو هذا الشارع بالتحديد، وتقول إنها تراه فى الصور وتعرفه جيدا، وتريد أن تذهب إليه، وقتها كنا فى منطقة شارع المعز لدين الله الفاطمى، وكانت شيماء شديدة الإعجاب بالتحف والأنتيكات الفرعونية والشرقية.
الفتاتان الأمريكيتان فى طرقات شوارع القاهرة القديمة
ظلت "شيماء" تمر من محل آخر، وكأنها تريد أن ترى كل شىء وتنقشه فى عينيها، لكن "عطاء" كانت تمر على التفاصيل ببساطة، كأنها لم تجد ضالتها بعد، عبرت أكثر من مرة عن أنه يحزنها عدد القطط والكلاب فى الشوارع التى نمر بها، وظلت تصر على الوصول إلى هذا الشارع، حتى أوصلتنا إليه بنفسها، وكان شارع خان الخليلى، فقلت لها إننا كنا أصلا فى الطريق إليه، وهناك انطلقتا، عطاء الله وشيماء، بين الإكسسوارات والهدايا والأحجار، وهما فى حالة انبهار وإعجاب لا حد لها.
بعد جولة داخل منطقة المعز وخان الخليلى، قررنا فى نهاية اليوم الجلوس على أحد المقاهى، كان الاختيار "مقهى الفيشاوى"، وبمجرد أن جلسنا وبدأت الفتاتان تتحدثان عن اليوم وتفاصيله وما شاهدتاه خلاله، كان الاتفاق بينهما على أن أجمل ما فى اليوم هى جولة المتحف المصرى، وأنه مكان ساحر، وبه كنوز تأخذك من تلابيب روحك إلى عالم آخر، وتؤكد عظمة مصر وعراقتها، وأن هذا المكان المبهر لا يساويه مكان آخر فى هذا العالم.
كان الاتفاق بين الفتاتين أيضا، على أن أسوأ ما فى اليوم، بخلاف زحمة الطرق والتلوث، هو الزيادة المفرطة فى عدد الكلاب والقطط فى كل مكان ذهبتا إليه، وأن هذا وإن كان يبدو للبعض رفاهية، إلا أنه يعطى مؤشرات وصورا ذهنية سلبية لأصحاب الثقافات الغربية عند زيارتهم لمصر.
وعن المصريين وطباعهم وتعاملهم مع الآخرين، قالت "شيماء" إنها تشعر بشدة أنهم شعب يعمل بكدّ وبجهد، وأن أكثر الانطباعات التى أخذتها عن كل من رأتهم من أول نظرة، أنهم فى حالة عمل دائمة، طوال الوقت، وفى كل الأماكن، وبجميع الأعمار، وقبل أن تكمل جملتها دخلت علينا طفلة تبيع مشغولات يدوية، فنظرت إليها شيماء قائلة: "حتى تلك الطفلة تعمل رغم أنه يجب أن تتوفر لها فرصة للتعلم واللعب"، مؤكدة أن هذه الحالة ربما تكون لها جوانب سلبية، ولكنها فى الوقت نفسه تدل على أن المصريين لا يستسلمون لصعوبات الحياة وضيق الرزق، ولكن ما يحزنها فقط هو أن أغلب الناس لا يظهر عليهم مردود ذلك العمل، وكأنهم يعملون دون مقابل.
الزميل تامر إسماعيل وعطاء الله داخل أحد محال شارع المعز
الصورة السابقة لدى شيماء لم تختلف كثيرا عن تصور "عطاء الله" عن الشعب المصرى، إذ كان رأيها فى المصريين أنهم شعب متعاون جدا، وأن بعض السلبيات قد تغذى فيك الخوف وتدفعك لتجنب التعامل معهم وحدك، أو أن تسير هى كفتاة أجنبية فى الشوارع وحدها، بسبب ما حذرها منه البعض عن انتشار التحرش والمضايقات، إلا أن هذه النظرة تتبدد مع التعامل المباشر، وأن الألفة والحميمية تتجلى فى ملامح كل من قابلتهم وتعاملت معهم.
وأكدت "عطاء" أن بعض السلبيات التى يتناولها البعض بشأن تصرفات المصريين ربما ترتبط ببعض الأماكن، إلا أن أماكن أخرى قد تكون أرقى فى المستوى الاقتصادى لم تشعر فيها بالخوف، كما هو الحال فى خان الخليلى، وأنها لمست من المصريين أنهم شعب يحب مساعدة الآخرين، حتى لو لم يكن لديه ما يقدمه لك، وهذه أبرز صفات المصريين.
سألتهما عن جواز سفرهما، هل هو مصرى أم أمريكى؟ أجابت شيماء بأن لديها باسبورا مصريا، أما باقى إخوتها فيحملون الباسبور الأمريكى فقط، وقالت عطاء: "سمعت من البعض هنا أن التعامل بجواز السفر الأجنبى يمنحك مميزات أكثر من المصرى"، وتابعت ضاحكة: "لاحظت ذلك فعلا فى فرق الأسعار وقدرة المصريين على الفصال والحصول على الشىء بسعر أقل"، وعن الأسعار نفسها ومستوياتها فى مصر قالت الفتاة: "أعرف أن مصر بلد مرتفع التكلفة بالنسبة للمصريين، لكن الحقيقة أن مصر بلد رخيص جدا بالنسبة لأى سائح أجنبى، وهذه ميزة".
ظل الحديث قائما ومنسابا بشكل جيد، بما يستعرضه من سلبيات وإيجابيات فى المجتمع المصرى وعلى صعيد المصريين، حتى نظرت لشيماء وسألتها: "ما الذى كنتِ تتمنين وجوده فى مصر ولم تجديه؟"، فصمتت قليلا، اعتقدت أنها تفكر فى إجابة، ثم بكت فجأة، وعندما طلبت من "عطاء" تهدئتها بكت هى الأخرى، فارتبكت وتمنيت لو لم أسأل هذا السؤال، وتوقعت أن اليوم والزيارة وكل شىء قد انتهى نهاية سيئة.
حاولت تغيير الموضوع سريعا، إلا أن الفتاتين أصرتا على الإجابة، قالت شيماء: "أنا أتمنى ألا يعمل الأطفال فى مصر، وأن يحصل هؤلاء المواطنون الذين يعملون ليلا ونهارا على مقابل يكافئ مقدار جهدهم، فالمصريون يسحتقون حياة أفضل"، قالتها ثم صمتت، واستكملت عطاء الله الحديث: "كان لا يجب أن تسأل هذا السؤال، لأننا نتمنى لمصر الكثير والكثير، فمصر التى تملك هذه الحضارة وهذا التاريخ وهذا الشعب، لا يجب أن تقف أحلامنا لها عند حد، ومن الطبيعى أن نشعر ببعض الحزن عندما نرى الأطفال يعملون أكثر مما يتعلمون ويلعبون، وعندما أرى القطط والكلاب بهذا الكم فى الشوارع، إلا أن كل ذلك يتحول فجأة لطاقة أمل وتفاؤل عندما ترى ضحكة طفل أو امرأة وهى تبيع لك قطعة اكسسوار أو أنتيكة، وأعتقد أن هذا مكمن عظمة المصريين وسر قوتهم".
انتهت دقائق البكاء، وسألتهما عن الرسالة التى ستحملانها معهما، وماذا ستقولان لأصدقائهما وزملائهما عندما تعودان للولايات المتحدة الأمريكية وتتحدثان عن مصر، قالت "شيماء" إنها ستتحدث لأحد أصدقائها بالتحديد، لأنه كان يحذرها قبل الزيارة من أن مصر بها إرهاب وحروب شوارع، وستقول له: "لم أر أى شىء مما حذرتنى منه، وأنا الآن أجلس على مقهى فى خان الخليلى، وكل المصريين حولى فى الشوارع، ويظلون هكذا حتى الساعات الأولى من الصباح".
نظرت لشيماء معجبا بالإجابة، وقررت أنا أسألها سؤالا آخر وأنا متخوف من الإجابة: "هل ستعودين إلى مصر مرة أخرى؟" ردت بكل سرعة وحسم: "نعم سأعود، وسيكون دورى أكبر من مجرد زائرة أو سائحة، لأننى أريد أن أضيف شيئا لهذا الوطن ولهذا الشعب".
انتهت الإجابة، حاملة تلخيصا وافيا للزيارة ولكل ما دار فيها، وانتهى اليوم على صوت سيدة خمسينية تجلس على مقهى الفيشاوى، قررت فجأة أن تغنى مع الجالسين معها أغنية من الفولكلور، كان الموقف غريبا ودافعا للفضول، قبل أن نكتشف لاحقا أنه كانت تغنى عقابا لها فى لعبة "الشايب"، شرحت الأمر لشيماء وعطاء، وتعجبنا جميعا - وأنا معهم رغم عمرى الذى قضيته كاملا فى مصر - من هذا الشعب الذى يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا، وحينما يُعاقب الآخرين، فإنه يعاقبهم بالغناء، أى بالحياة.
أحد البائعين يساعد عطاء الله
الزميل تامر إسماعيل وشيماء وعطاء الله أمام منطقة أبو الهول
شيماء بين آثار الأجداد فى منطقة الأهرامات
شيماء تجرب بعض الإكسسوارات وتسأل أحد البائعين عن صناعتهم
عطاء الله أمام أبو الهول
عطاء الله تصور الأهرامات وأبو الهول من منطقة أكثر ارتفاعا
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة