فى صحراء مكة القاحلة، مترامية الأطراف، تركها زوجها بصحبة طفلها الرضيع ومضى فى طريق عودته، تاركاً لهما تمراً وماءً، وعندما سألته أتتركنا فى هذا الوادى دون أنيس، لم يلتفت إليها، متيقناً أن الله لن يضيعهما أبداً، إنها السيدة "هاجر" زوجة نبى الله إبراهيم عليه السلام.
منذ اللحظة الأولى أيقنت "هاجر"، رضى الله عنها، المعنى الحقيقى للإيمان بالله تعالى، وصدق وعده لنبيه عليه السلام، فقدمت أروع الأمثلة فى الطاعة عندما قالت دون تردد، "إذن فإن الله لن يضيعنا"، فاستحقت المكافأة الإلهية بأن وفاها الله وأجزل فضله عليها فعطر ذكرها وأعظم ذكراها ودفنها بجوار بيته وآنسها فى وحشتها ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب، وتحول مكان سعيها بين الصفا والمروة إلى ركن من أركان الحج، وجعل خاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلق أجمعين محمد، صلى الله عليه وسلم، من نسلها المبارك.
ولكن ماذا عن حياة السيدة هاجر قبل زواجها من نبى الله إبراهيم عليه السلام، وكيف سارت بعد واقعة بئر زمزم، ومتى توفيت؟
وعلى الرغم من ذكرها فى عدة مواضع بالسنة النبوية، إلا أن القرآن الكريم اكتفى بالإشارة إليها، دون ذكر اسمها صراحة، مثنياً على صبرها وقوة إيمانها فى المحن التى ألمت بها، وأبرزها عندما تركها نبى الله إبراهيم مع ابنها الرضيع فى الصحراء، فصبرت واستعانت بربها، ففجّر لها بئر زمزم، الذى تأتيه الوفود من كل صوب وحدب، وعاشت فى أمن وسلام بجانب بيت الله الحرام، وما لبث أن زادها الله تكريماً بعدما نجحت فى الاختبار الثانى والأصعب على أى أم ترى ابنها يقدم كذبيح، حينما أمر الله نبيه إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، فصبرت بقوة إيمانها راضية بقضاء الله بنفس مطمئنة، ففدى الله ولدها بذبح عظيم، وتحولت إلى سنة مطهرة يفعلها المسلمون كل عام تقرباً إلى الله تعالى.
هاجر من الفرما إلى النوبة
اتفق المؤرخون حول مسقط رأس السيدة هاجر وأنها ولدت فى مصر، بمنطقة تل الفرما التى تبعد عن محافظة بورسعيد بعدة كيلو مترات، وبحسب ابن هشام فى سيرته فإنها ولدت فى قرية الفرما، وهى مدينة مصرية فى أقصى الدلتا على مقربة من بحيرة تنيس، ويذكر العرب أن أبوابها المشهورة التى قال عنها نبى الله يعقوب "يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة"، طبقاً لكتاب موسوعة 1000 مدينة إسلامية لعبد الحكيم العفيفى، وتعنى بالقبطية بيت آمون، وذكرت فى التوراة باسم "سين" أى قوة مصر، وأصبح اسمها الفرما، وتعرضت لعدوان الروم البيزنطيين، وبنى فيها الخليفة العباسى المتوكل حصناً يطل على البحر ليحميها من تلك الهجمات عام 239 هجرية.
وقال ابن إسحاق، "حدثنى محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهرى أن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصارى، ثم السلمى حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما"، فقلت لمحمد بن مسلم الزهرى: ما الرحم التى ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم؟ فقال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم".
"أم الذبيح" بين ادعاءات اليهود وإنصاف المسلمين
واختلفت الروايات التاريخية حول وضع السيدة هاجر الاجتماعى، حيث ذكر بعض اليهود أنها كانت جارية لدى فرعون، وجاء فى سفر التكوين "إصحاح 21" أنها كانت ابنة لفرعون مصر، وتنادى بعض الأصوات النوبية بأن مسقط رأسها فى بلاد النوبة، جنوبى مصر، مستندين إلى أصل التسمية وأن (ها) بالهيروغليفي معناها زهرة اللوتس، وكلمة (جر) معناها أرض جب بالمعنى التوراتى (مصر)، أى أن اسمها زهرة اللوتس وكنيتها المصرية، كما أن اسم هاجر يقابله نفس النطق بالنوبية كلمة هاقجر التى تعنى الجالس أو المتروك، فى إشارة إلى تركها وحيدة فى مكة، فضلاً عن أنه من الثابت أن السيدة هاجر كانت تلبس ثوباً طويلاً فضفاضاً ليخفى آثار أقدامها، وهذا الوصف ينطبق على "الجرجار" وهو اللباس النسائى النوبى المعروف المستخدم حتى اليوم.
إلا أن ابن كثير روى فى "البداية والنهاية" أنها أميرة من العماليق، وقيل من الكنعانيين الذين حكموا مصر قبل الفراعنة، تبناها فرعون، وعندما أراد سوءا بـ"سارة"، زوجة نبى الله إبراهيم، فدعت الله فشلّت يده، ثم طلب منها الدعاء بالشفاء على أن لا يمسها بسوء، ففعلت فشفاه الله، فأهدى إليها الأميرة هاجر تكريماً لها، وليست خادمة كما يدعى اليهود.
وعندما أدركت السيدة سارة، زوجة سيدنا إبراهيم الأولى وكانت أحد أقاربه أو ابنة عمه، كما يحكى كتاب السير، أن نفسه تشتاق إلى الولد، ولم يكن الله قد رزقهما، فأرادت، بحكمتها البالغة ومراعاة لمشاعر زوجها وإدراكها للأمور جيداً، أن تختار له زوجة أخرى، فكانت "هاجر" التى أنجبت له نبى الله إسماعيل عليه السلام. وحسب كتاب التاريخ والسير أيضاً، وجدت الغيرة طريقها إلى قلب سارة، وربما أحست تراجع مكانتها فى قلب زوجها، فطلبت منه أن يأخذ هاجر بعيدًا، وهو ما حدث، فاصطحبها إلى صحراء مكة، بأمرٍ من الله، ليتركها بصحبة رضيعها فى تلك الصحراء وتمتثل هاجر لأمر ربها بصدق، ويقول الله تعالى: "رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم/37-38]".
ماذا بعد قصة بئر زمزم؟
أيقنت رضى الله عنها أن وراء هذا الاختبار فرجاً، ولكنها لم تكن تدرى كيف السبيل لذلك، وقد نأى عنها زوجها وتركها فى تلك الصحراء الواسعة، فجلست تضم صغيرها وتدعو الله أن يغفر لها، وما لبثت أن نفد منها الزاد والماء، وبدأ صغيرها فى البكاء عطشا، فقامت تبحث له عن الماء، وكان سعيها بين جبلى الصفا والمروة سبعة أشواط تعتلى فى كل مرة جبلاً وتنظر حولها، لعلها تجد أثراً للماء، فلم تجده، حتى كان فرج الله الذى أرسل جبريل فضرب بعقبه الأرض ففجر نبعاً، وعادت الأم لتجد نبع الماء عند ولدها، فجعلت تزم التراب حوله ليتجمع، ولذلك سمى زمزم. ويقول عنه النبى صلى الله عليه وسلم، "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ ـ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا » " [البخارى برقم (2368 )].
وبعد أيام مرّ على السيدة هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس من قبيلة "جُرْهُم"، وأرادوا البقاء فى هذا المكان بعدما رأوا ماء زمزم، فسمحت لهم بالسكن بجوارها، واستأنست بهم، وشبَّ الطفل الرضيع بينهم وتعلم اللغة العربية، ولما كبر تزوج امرأة منهم. يقول عبد الله بن عباس: قال النبى عليه الصلاة والسلام فألفى ذلك أم إسماعيل وهى تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم وكان للسيدة هاجر بينهم مكانتها الكبيرة ومقامها الرفيع وكلما زاد العمران على المكان سعدت السيدة هاجر بذلك وشب إسماعيل وتعلم اللغة العربية من قبائل جرهم التى جاءت إلى المكان لتسكن وتستقر.
وفاة هاجر ودفنها بجوار الكعبة
ماتت السيدة هاجر عن تسعين عاماً ودفنها إسماعيل عليه السلام بجانب بيت الله الحرام، رحلت وتركت لنا مثالاً رائعاً المؤمنة والزوجة المطيعة والأم الحانية، وفاها الله وأجزل فضله عليها فعطر ذكرها وأعظم ذكراها ودفنها بجوار بيته وآنسها فى وحشتها وآمنها فى غياب زوجها ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب، وعرف قبرها بـ"حجر إسماعيل"، أى المكان الذى تربى فيه أحد المرسلين السماويين وأصبح جزءاً من المطاف، ويعد الطواف حول الكعبة دون المرور حوله باطلاً.
هذه هى هاجر أم العرب الكنعانيين وأم الذبيح إسماعيل، التى ضربت أروع الأمثلة للمرأة المؤمنة والصالحة، امتثلت لتنفيذ أوامر الله بإيمان وصبر فاستحقت الثواب الإلهى بأن رفع الله تعالى مقامها، من الطبقة الدنيا بوضع قبرها بجوار الكعبة المشرفة وتحول مكان مسعاها بولدها بين الصفا والمروة أحد أركان الحج الذى يأتيه المسلمون كل عام من كل حدب وصوب، كما شرفت بأن أرسل خاتم النبيين وأفضل البشر من نسلها المبارك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة