ـ النيل من الأشياء التى ارتبطت بها منذ مرحلة باكرة من حياتى
ـ والدى هو الدكتور محمود أبوزيد موسى، مدرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة
ـ كان والدى مقربا من الزعيم مصطفى كامل فى العشرينيات من القرن الماضى
ـ شغل والدى مقعدا فى مجلس النواب عن حزب الوفد فى أواخر العشرينيات والثلاثينيات
ـ ولدت بحى منيل الروضة، ثم انتقلت عائلتى إلى شارع سعيد المتفرع من قصر العينى
ـ توفى والدى سنة 1945م، ولكن وجود جدى فى حياتى خفف نسبيا وقع غياب الأب
ـ أنشدت أمام مكرم عبيد نشيدا للترحيب به: «أهدى لمكرم باشا الورد»
ـ زرت النحاس باشا مع جدى للمرة الأولى فى إجازة نصف العام سنة 1946م
ـ دخنت أول سيجار فى حياتى بالسينما وبعدها أغمى على وحملنى أصدقائى خارجا
ـ حصلت على الثانوية العامة من مدرسة «طنطا الثانوية الجديدة»
ـ كانت والدتى حريصة على أن أزور أهل والدى فى قرية بهادة بالقليوبية كل صيف
ـ دخلت كلية الحقوق بتأشيرة من الشيخ محمد أبو زهرة وكنت حاصلا على 58.8%
ـ تزوجت والدتى من المرحوم المهندس محمد عبدالرحمن عبدالبارى
ـ كان زوج والدتى من قرية زاوية البقلى فى المنوفية، ويعمل مفتشا عاما لمشروعات الرى فى الغربية ومقره طنطا
ـ أول عمل تسلمته فى الوزارة كان فى «إدارة الأبحاث» التى تربط بين الخارجية والرئاسة
ـ ألحقت للعمل لدى سفارتنا فى العاصمة السويسرية برن مع السفير فتحى الديب
ـ التقيت أخى بيير موسى فى فرنسا وهو يشبه والدنا تماما وأزوره مرة كل شهرين
كعادته يخالف عمرو موسى العادة، ويأتى بغير المتوقع، ويبحث عن الفرادة والتفرد فى كل ما يفعل، ذلك أنه عندما قرر اختيار عنوان لمذكراته الواسعة المطولة التى جاء الجزء الأول منها فى نحو 650 صفحة، وقعت عيناه على مفردة "كتابيه" الواقعة فى الآية التاسعة عشر من سورة الحاقة بالجزء التاسع والعشرين فى القرآن الكريم ونصها {فَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} ومن المؤكد أن العنوان وحده يكفى للغوص فى العقلية الاستراتيجية للدبلوماسى الأشهر، ويكفى لفهم طبيعة تفكير الرجل الذى جلس على أرفع مقاعد السلطة والسياسة فى مصر والعالم العربى بدءا من عمله سفيرا لمصر بالأمم المتحدة (1968 ـ 1991) مرورا بتوليه منصب وزير الخارجية (1991 ـ 2001) ثم توليه منصب الأمين العام للجامعة العربية (2001 ـ 2011) وانتهاء برئاسته لجنة الخمسين لتعديل الدستور تلك التى أفرزت دستور 2014 الذى أقره المصريون.
وعليه فإن كل كلمة يكتبها عمرو موسى تحظى بالأهمية ذاتها التى يحظى هو بها، وتستمد زخمها من زخم تاريخه ومن زخم اسمه ومن زخم مكانته وذاكرته، ومن العلاقات المعقدة والمركبة التى كونها فى سنى عمله المهنية، ومن شبكة علاقاته الدولية بأغلب قادة العالم، وأغلب المنظمات الدولية الكبرى، ويكفينا للدلالة على تلك الخاصية رؤيته فى كل المناسبات التى تقيمها الهيئات الأممية حول العالم، بالرغم من خروجه من السلطة، وبالرغم من حلوله خامسا فى سباق انتخابات الرئاسة 2012، وبالرغم من انطوائه على نفسه فى الأشهر الأخيرة، محاولا الاكتفاء بتسجيل التاريخ كما رآه ورواه.
خلاصة الحديث فى عمرو موسى أنه رجل يحب الكاميرات ويعرف كيف يجعلها تحبه، وحتى كونه خارج دائرة الضوء وخارج دوائر صناعة السياسة فى الوقت الحالى؛ إلا إن الحشد الكبير الذى جلس فى قاعة حفل توقيعه الكتاب، والحضور الكثيف من الشخصيات العامة فى السلطة وخارجها، والكم الهائل من الكاميرات وميكروفونات الفضائيات والصحفيين، والشخصيات الدولية والعربية، يعطى انطباعا دلاليا على الموهبة التى مُنحها، رجل حصيف يجيد جذب الأضواء، موهبته الكبرى تكمن فى أنه يستطيع البقاء على قيد الحياة فى حيز الإعلام وحيز التاريخ وحيز السياسة وحيز التأثير.
يقول عمرو موسى...
ولدت فى 3 أكتوبر 1936م، فى حى منيل الروضة بالقاهرة. كان من الأحياء الهادئة، التى تقبل على السكنى فيها الطبقة المتوسطة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى. النيل من الأشياء التى ارتبطت بها منذ مرحلة باكرة من حياتى. أذكر بمزيد من السعادة تلك المرات التى أخذتنى فيها والدتى السيدة «ثريا حسين الهرميل» للتنزه على صفحة هذا النهر العظيم. مازلت أشعر بقبضة يدها وهى تمسكنى بقوة خلال ركوبنا المراكب الشراعية التى كنا نتجول بها فى مياهه.
والدى الدكتور محمود أبوزيد موسى. كان يعمل مدرسا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة. بعد عودته من فرنسا وتخرجه فى جامعة ليون دخل مجال السياسة مثله مثل شباب تلك الأيام الذين تعلموا فى أوروبا ويستندون إلى أسر عميقة الجذور، وانتخب نائبا فى مجلس النواب عن حزب الوفد فى أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضى، وكان مقربا من الزعيم مصطفى النحاس باشا؛ لأنه كان من ضمن مجموعة شباب حزب الوفد التى تلقت تعليما جيدا فى الخارج، وكان الحزب يستند إليهم ويراهن عليهم، ويعدهم للمستقبل فى محاولة مدروسة لتواصل أجياله.
فى هذه الفترة تركنا حى منيل الروضة، وانتقلنا إلى شارع سعيد المتفرع من شارع قصر العينى. كان منزلنا مشرفا على حدائق مجلس الوزراء، الذى كان قصرا للأميرة شويكار ومبناه الفخم وأشجاره الوارفة آنذاك. على الناحية الأخرى من هذه الحدائق يربض البرلمان بقبته التاريخية. يوميا كنت أطل من النافذة على هاتين المؤسستين (مجلس الوزراء والبرلمان)، وكثيرا ما حكت لى والدتى عن أهميتهما، التى تبدت لى من خلال متابعتى للحركة الدءوبة حولهما، لاسيما من الضباط والجنود الذين كانوا يرتدون ملابس التشريفة بألوانها الزاهية المبهجة.
بعد أن بلغت الخامسة بقليل، أصيب أبى بالفالج (نوع من الشلل)؛ الأمر الذى قلب نظام الأسرة. من بين الوصفات التى وصفت له كى تتحسن حالته العيش فى الريف، حيث البعد عن التوترات بما فيها العمل فى الجامعة والسياسة. تحقق ذلك بأن دعانا جدى لوالدتى النائب الوفدى فى مجلس النواب «حسين بك الهرميل» للإقامة معه فى منزله الكبير بـ«محلة مرحوم»، الواقعة إلى جوار مدينة طنطا. كان بيتا رحبا يسميه الناس هناك «السرايا»، ولذلك كان من السهل أن يخصص لنا فيه ــ والدى ووالدتى وأنا ــ جناحا كاملا.
خلال تلك الفترة التقيت ببعض زعماء الوفد الكبار فى مناسبات عديدة؛ فعندما بلغت السادسة من عمرى، جاء لزيارة جدى، القطب الوفدى الكبير، مكرم عبيد باشا، قبل أن يتم فصله من حزب الوفد فى يوليو 1942م. أنشدت أمامه نشيدا للترحيب به، يقول مطلعه «أهدى لمكرم باشا الورد»، وبعد ذلك بسنوات قليلة زارنا فؤاد باشا سراج الدين الذى أصبح سكرتيرا عاما للوفد.
لم يكن جديدا علىّ أن أقف أمام مكرم عبيد باشا للترحيب به فى هذه السن الصغيرة؛ فقبل هذه الزيارة خطبت فى الجماهير خلال مؤتمرات جدى الانتخابية الخاصة بالانتخابات البرلمانية التى أجريت فى مارس 1942م، والتى فاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة بعد أن قاطعها «الأحرار الدستوريون» و«السعديون».
أول مرة زرت فيها النحاس باشا مع جدى كانت فى إجازة نصف العام سنة 1946م. قدمنى جدى إليه بقوله: «هذا عمرو ابن الدكتور محمود موسى»؛ فاحتضننى الباشا وقبلنى وربت على كتفى، وأجلسنى على حجره، وظل يسألنى بعض الأسئلة من تلك التى تسأل للأطفال فى مثل سنى: فى أى سنة دراسية أنت؟ وفى أى مدرسة؟.. وعندما أجيب يرد مبتسما: ما شاء الله.. ما شاء الله.
توفى والدى أوائل سنة 1945م، ولكن وجود جدى فى حياتى خفف نسبيا وقع غياب الأب على نفسى؛ فقد أولانى هذا الرجل العظيم عناية ورعاية خاصة، لم يحظ بها أى من أحفاده الآخرين. ذهبت بعد ذلك إلى المدرسة الابتدائية، ومع دخولى إياها لبست «بنطلون» طويلا لأول مرة، قبلها كنت أرتدى «الشورت» مثل معظم أطفال ذلك الزمان. كان لبس البنطلون الطويل واحدا من المطالب التى ألححت بها على أمى. أول بنطلون ارتديته كان رماديا، لبسته مع جاكت أخضر، وطربوش، فكان هندامى معقولا، لكن هذه القيافة والشياكة كانت تذهب إلى خبر كان عندما نلعب الكرة فى المدرسة؛ ففى المرات التى كنا لا نجد فيها كرة نلعب بها، كنا نلعب بطربوش واحد منا!.
كانت والدتى مهتمة جدا بأن أظل على علاقة جيدة بأسرة الوالد، فى قرية «بهادة» بمركز قليوب (تتبع الآن مركز القناطر الخيرية)، بمحافظة القليوبية. فى بداية كل إجازة صيفية ترسلنى إلى أسرة والدى لأقضى معهم أسبوعين قبل أن أتوجه معها وجدى إلى المصيف بالإسكندرية.
• صوت عبدالوهاب وأول سيجار
زيارتى السنوية للقاهرة فى إجازة نصف العام كانت فرصة مهمة جدا للاطلاع على الفنون والآداب الحديثة، فخالى «سامى الهرميل» الذى ننزل عنده، تلقى تعليمه فى أوروبا، ولذلك كان يقيم الحفلات والمآدب واللقاءات الثقافية والاجتماعية باستمرار فى بيته بالزمالك. فى إحدى زياراتنا له أقام حفل عشاء دعا إليه نخبة من أصدقائه من الشخصيات العامة، وكان من بينهم الدكتور محمد صلاح الدين، الذى أصبح وزيرا للخارجية فى حكومة النحاس باشا الأخيرة (يناير 1950 ــ يناير 1952م)، والموسيقار محمد عبدالوهاب، الذى لفت انتباهى من بين الحاضرين. كنت فى غاية السعادة لرؤيته؛ لأننى أحب أغانيه وصوته الجميل، الذى اعتدنا الاستماع إليه من خلال «الراديو»، لاسيما أغانى أفلامه.. وإلى الآن هو مطربى المفضل.
خلال تلك الفترة بدأت تباشير الشباب تظهر علىّ، من الرغبة فى تدخين سيجارة.. الإعجاب بفتاة.. إثقال الخطوة عندما ينادى علىّ أحد، فى محاولة لإظهار أننى قد كبرت ولم أعد طفلا. بعد أن تخطيت عامى الثالث عشر بقليل ــ فى سنة 1949م ــ وصلنى أول «سيجار» فى حياتى. لا أذكر من أعطاه لى. يومها دخلت السينما مع مجموعة من الأصدقاء، فوجدتها مناسبة لإشعاله بداخلها.
لم أكن على دراية بكيفية تدخين «السيجار»؛ فسحبت نفسا عميقا وكأننى أدخن سيجارة صغيرة. على إثر ذلك دخلت فى نوبة إغماء. حملنى أصدقائى إلى خارج السينما، وسط ضحك وتريقة، وأنا لا أشعر إلا بالماء الذى يلقونه على وجهى كى أفيق، وبينما أنا خارج من حالة الإغماء قال أحدهم وهو منهمك فى الضحك «لمّا انت مش قد السيجار.. بتشربه ليه؟!».
حصلت على الثانوية العامة من مدرسة «طنطا الثانوية الجديدة»، لكن يجب أن أعترف هنا أننى فى بداية هذه المرحلة أهملت بعض دروسى، وكانت النتيجة هى رسوبى فى الصف الأول الثانوى. تسبب ذلك فى صدمة كبيرة لى وللعائلة. عانيت من كل ما يمكن أن يعانيه طالب راسب فى أسرة مصرية تتصور لابنها مستقبلا زاهرا فيفاجئها بالرسوب. كنت أعاير بهذا الرسوب طوال إعادتى للسنة «أنت من كان الأول على مدرسته فى الابتدائية تسقط؟!»، هكذا كانت أمى تقول لى طوال الوقت. شددت من إجراءاتها العقابية ضدى؛ فكان الرسوب درسا قاسيا لى وعيته جيدا، وأصبحت من الناجحين حتى تخرجت فى الجامعة.
• الحياة الجامعية
حصلت على التوجيهية (الثانوية العامة) سنة 1953م، بمجموع بلغ 58.8%، وأعلنت كلية الحقوق بجامعة القاهرة أنها ستقبل الطلاب الجدد بمجموع حده الأدنى 60% للقسم الأدبى. لم يكن هناك نظام التنسيق المعمول به الآن لدخول الجامعات. أخذت أوراقى وذهبت لتقديمها فى هذه الكلية؛ فرفض الموظف تسلمها منى. قال: «إن مجموعك أقل من الحد الأدنى ب0.2% (اثنين من عشرة بالمائة) انتظر أسبوعين، قد يتقرر تخفيض الحد الأدنى».
لم أرتح لموضوع الانتظار أسبوعين؛ فقررت الذهاب لمقابلة عميد الكلية لأعرض الأمر عليه. لم أكن أتخيل حرمانى من دخول كلية الحقوق التى هى رغبة أكيدة لى وأمل لوالدتى، ناهيك عن اللوم الذى كنت أتوقعه لأننى لم أحصل على الـ60% المطلوبة. سألت أحد السعاة عن مكتب العميد، فسألنى عن سبب المقابلة فحكيت له الواقعة. قال لى: «اذهب إلى الشيخ محمد أبو زهرة، وكيل الكلية، والمسئول عن قبول الطلاب الجدد».
توجهت إلى الشيخ أبو زهرة فى مكتبه، فما إن رآنى حتى قال بصوته الجهورى، وبلهجة عدوانية لطيفة كانت معروفة عنه: «إيه؟.. عايز إيه يا ولد؟.. انت مين؟ وجاى ليه؟». قلت: اسمى فلان.. وعندى مشكلة صغيرة، وهى أن مجموعى أقل من الحد الأدنى للقبول بالكلية بـ0.2%، وأنا أريد أن تقبلنى فى الدفعة الجديدة.
باغتنى بنفس لهجته الحادة: مش قادر تجيب 60%؟، ده أنت خيبان بقى.. خيبان هه. لماذا لا تنتظر كام يوم ربما نوافق؟. أجبت: لماذا أنتظر والأمر عند فضيلتك، والفصل بين يديك؟ (اندهشت أنا نفسى لهذه الجملة البليغة التى صدرت منى دون إعداد ويبدو أنه «انبسط» منها أيضا)، وبالفعل كتب على الملف الذى يحتوى على أوراقى «أوافق ويسجل»، وقبلت فى كلية الحقوق.
فى هذه الفترة تزوجت والدتى من رجل فاضل هو المرحوم المهندس محمد عبدالرحمن عبدالبارى (من قرية زاوية البقلى فى المنوفية). كان مفتشا عاما لمشروعات الرى فى الغربية ومقره طنطا، وقد أسهم هذا الرجل الكريم فى تربيتى؛ فعلمنى دوام الصلاة، وأشرف على توجيهى بتسامح وتفهم لحاجات الشباب، وسهل لى التمتع ببعض الحريات الإضافية التى لم تكن حياة القرية ومجتمعها يتفهمها جيدا.
فى الجامعة وجدنا آفاقا واسعة تتفتح أمامنا. لم يكن هناك تسجيل للحضور أو الانصراف؛ ولذلك نجحت فى تكوين شلة واسعة جدا من الطلبة، كنا نذهب إلى كلية الآداب و«بوفيهها» الشهير أو نذهب إلى حفلات السينما الصباحية، وغير ذلك من حركات الشباب وأنشطته وشقاوته. (يحتوى الكتاب على تفاصيل كثيرة عن حياة موسى الجامعية).
• من المحاماة للخارجية
بعد تخرجى عملت محاميا تحت التمرين، كان كل ما أصنعه هو أن أطلب تأجيل بعض القضايا بتقديم بعض المبررات لهيئة المحكمة. فى البداية كان الكاتب الذى يعمل بمكتب المحاماة الذى أتدرب فيه يساعدنى فى كتابة الصيغ الخاصة بطلب هذه التأجيلات. لكن فى مرة من المرات ذهبت إلى محكمة الجيزة الجزئية لطلب تأجيل، وكنت قد درست أسباب التأجيل بهمّة لا بأس بها، وترافعت أمام القاضى، وحصلت بالفعل على ما أردت.
فى أحد أيام سبتمبر من سنة 1958م، وبينما أهم لدخول محل «جروبى» الشهير فى وسط القاهرة لمقابلة بعض أصدقائى، لمحت ذلك القاضى الذى ترافعت أمامه فى محكمة الجيزة الجزئية ــ لم أعد أذكر اسمه الأول، لكن لقبه كان: ضياء الدين ــ يجلس مع اثنين من أصدقائه، فأشار لى، فذهبت إليه. بادرنى بالقول: أنت ترافعت قدامى من كام يوم؟ قلت: نعم. قال لى: شوف يا ابنى، إذا استطعت أن تتحمل مشاق المحاماة لمدة 10 سنوات ستكون أكبر محام فى مصر، أنا أتنبأ لك بذلك، ومن الممكن أن تصبح وزيرا للعدل فى يوم من الأيام.
أكرمنى الله بأن التحقت بوزارة الخارجية سنة 1958، علما بأن القبول فى الخارجية لم يكن خلال هذه الفترة بالوساطة، كان الأمر يتوقف على قدرتك على اجتياز الامتحان السرى والمقابلة الشخصية، وسلامة بعض التحريات الأمنية التى تجرى على المتقدم للتأكد من عدم قيامه بأى نشاط سياسى من الذى تعتبره الدولة موجها ضدها، مثل عضوية جماعة الإخوان المسلمين، أو أى من التنظيمات الشيوعية التى كانت تنتشر فى مصر وقتها، وأنا لم يكن لى أى نشاط سياسى من هذا النوع خلال فترة الجامعة أو قبلها.
أول عمل تسلمته فى الوزارة كان فى إدارة تسمى «إدارة الأبحاث». كانت تربط بين وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، فأى شىء تريد الوزارة إرساله إلى الرئاسة يتم عبر هذه الإدارة المهمة. بعد ذلك نُقلت لأصبح سكرتيرا خاصا لوكيل وزارة الخارجية الجديد، الفريق حافظ إسماعيل، بعد أن رشحنى مدير «إدارة الأبحاث»، المستشار صلاح وصفى، رحمه الله، لهذا العمل.
مكثت فترة فى مكتب إسماعيل، إلى أن جاءت الحركة الدبلوماسية، فعرفت أننى مرشح للعمل فى سفارتنا فى أثينا. دخلت عليه محتجا. قلت له: «يا أفندم أنا فى مقتبل حياتى المهنية، وأريد أن أتعلم. ذهابى لأثينا يساوى عندى الذهاب إلى الإسكندرية بالضبط»، بعد كثير من التفاصيل ألحقت للعمل لدى سفارتنا فى العاصمة السويسرية برن مع السفير فتحى الديب.
الديب كان رجلا ذا عقل راجح وتجربة ثرية فى الحياة، فكان متفهما لانطلاق الشباب ممن فى مثل سنى، لكنه فى الوقت نفسه كان قادرا على السيطرة على الأمور بشكل ممتاز. كان فاعلا فى القضية الجزائرية، وتربطه علاقات وثيقة جدا بقيادات الثورة الجزائرية؛ التى كانت تدعمها مصر.
أذكر خلال فترة عملى فى سفارتنا فى برن أن الرئيس جمال عبدالناصر كان يهتم بنظام غذائه، ولذلك كان من يخدمونه يرسلون من وقت لآخر من يأتى له بأصناف معينة من الطعام الخاص بـ«الرجيم» من سويسرا. كانت أشياء بسيطة، وكان يأتى لإحضارها رجل ضخم الجثة، وكنت أنا المسئول عن تسليمها له. هذا الرجل كان يصر على أن «مصر هى أكبر دولة فى الدنيا، وأن الرئيس عبدالناصر هو أعظم رئيس فى العالم.. لا أمريكا ولا روسيا.. سيبك من هذا الكلام الفارغ ده يا أستاذ عمرو، رئيسنا أهم شخصية فى العالم.. والاتنين دول بيتنافسوا عليه وهو موريهم الويل.. ورغم كده شوف تواضعه.. الرجل يأكل فول وجبنة زى باقى الشعب»!. وعلى الرغم من حبى الشديد لعبدالناصر فإننى كنت أضحك على المنطق الذى يتحدث به هذا الرجل، وبخاصة أن الرئيس ليس أهم رئيس فى العالم (يحتوى الكتاب على تفاصيل كثيرة عن الفترة التى قضاها موسى فى سويسرا).
• البحث عن أخى على موسى
بعد سنتين من ولادتى، ولد أخ لى هو طارق موسى غير أنه توفى طفلا. بعد ذلك بقليل قيل لى إن لى أخا آخر يعيش فى فرنسا من أم تزوجها أبى وهو يتلقى العلم هناك واسمه «على»، ثم أصبح «بيير» وقد ولد فى 3 مارس 1922، أى أنه يكبرنى بـ14 سنة. حاول أبى أن يأتى به إلى مصر قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية إلا أنه واجه معارضة شديدة من أمه، التى تمسكت بأن بقاءه فى فرنسا أفضل له من العيش فى الشرق، وأن ذلك ــ وفقا لما تراه هى ــ يصب فى مصلحته.
اندلعت الحرب ووقعت فرنسا تحت الاحتلال الألمانى. فور معرفة أبى بهذا الخبر سقط مصابا بالفالج حزنا على ابنه الذى لم يستطع الاتصال به أو معرفة مصيره. ظل ــ يرحمه الله ــ يتعذب على فراش المرض من شدة القلق على ذلك الابن الذى يعيش فى بلد يخوض حربا طاحنة لا هوادة فيها، إلى أن توفى فى سنة 1945، التى انتهت فيها الحرب دون أن يتمكن من معرفة مصير موسى الصغير فى فرنسا.
تمر السنون والسؤال عن مصير أخى يكبر بداخلى. صار لغزا كبيرا فى حياتى أعمل جاهدا على حله. قبل وصولى برن أجريت محاولات عديدة للبحث عنه لكنها فشلت (تفاصيل هذه المحاولات موجودة بالكتاب).
فى إحدى الإجازات التى أمضيتها فى باريس سنة 1962/1963 هدانى تفكيرى للبحث عن اسمه فى دفتر التليفونات الخاص بهذه المدينة. لم أصدق نفسى عندما وجدت اسمه مكتوبا فى هذا الدفتر. رجف قلبى بشدة. تذكرت أبى. خاطبته كأنى واقف أمامه: يبدو أن الله قد أراد أن يريح قلبك الذى لاقيت ربك وهو موجوع على أخى.
حاولت تمالك أعصابى أثناء إمساكى بالسماعة لإجراء أول اتصال بـ«بيير». قدمت له نفسى: أنا أخوك عمرو. ظهر مترددا فى البداية وغير قادر على استيعاب ما أقوله له، فهو الآن فى الأربعين من عمره، وبعد كل هذه السنوات يتلقى تليفونا من شخص يقول له: أنا أخوك. كانت المفاجأة كبيرة عليه. قال إنه يعمل فى قطاع البنوك، وأنه عائد لتوه من واشنطن، حيث كان يمثل فرنسا فى أحد الاجتماعات المهمة، وأنه مسافر إلى أفريقيا فى ظرف أيام قليلة.
قال بيير وقد بدأ يستوعب ما أقوله: «لابد أن نلتقى قبل أن تغادر فرنسا»، ودعانى إلى فنجان قهوة سريع معه بعد يومين. قضيت بقية اليوم واليوم التالى وأنا متوتر الأعصاب.. رحت أفكر فيما يمكننى أن أقول له.. هل أحكى له عن مرض والدنا بسبب خوفه عليه بعد اندلاع الحرب، أم أجعل اللقاء لطيفا هينا باعتباره لقاء تعارف أتوقع أن تتلوه لقاءات أخرى؟.. انحزت إلى الخيار الثانى.
ذهبت إلى «الكافيه دى لابيه» قبل الموعد بساعة أو أقل قليلا. جلست على مائدة تمكننى من رؤية كل من يدخل من الباب الرئيسى، وتمكن الداخل أيضا من رؤيتها. تشاغلت بقراءة صحيفة.. الوقت يمر بطيئا جدا. بدأ الناس يتقاطرون على«الكافيه» فهو وقت «شاى بعد الظهر». رحت أشخص ببصرى صوب الباب الرئيسى متمنيا أن أتمكن من التعرف على أخى دون أن يتوه أو أتوه أنا منه. فجأة دخل «والدى» فوقفت وتوجه هو إلىّ وتصافحنا. قلت «والدى» لأن بيير يشبه والدى تماما. أول ما قاله لى: تعرفت علىّ.. بسهولة يبدو أنك ذكى. قلت: «كل ما فى الأمر أنك تشبه والدنا بشدة، لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص»، فأظهر سروره بتأكيدى على شبهه الكبير بوالدنا.
انتهى اللقاء بأن اتفقنا على مداومة الاتصال دون الإعلان عن أخوتنا بالنظر إلى ظروفه الخاصة، فضلا عن أن العلاقات المصرية ــ الفرنسية لم تكن فى أحسن حالاتها، وخشى من تأثير ذلك على مكانته فى فرنسا، وهو ما تفهمته بشدة، فهو ينطبق علىّ أيضا، وإن بشكل أقل. مضت الأمور فى أوقات لاحقة بتبادل الزيارات بينى وبين أخى، دعوناه ــ زوجتى وأنا ــ لزيارة القاهرة مع زوجته، واستضفناه فى منزلنا فى «سيدى عبدالرحمن»، ثم دعوناه مرة أخرى إلى حفل زفاف ابنتنا هانيه، وحضر أيضا مع زوجته. بيير موسى واحد من أهم وأشهر رجال البنوك فى فرنسا، معروف بكفاءته العالية فى عالم المال والبنوك، وله عدة كتب منشورة ومقروءة. تزوج ولم ينجب، ولايزال حيا. وأزوره مرة كل شهرين.
قصتى مع عبد الناصر
التقيت عبدالناصر مرتين فى حياتى. الأولى كانت فى 21 أكتوبر 1966 فى نيودلهى، عندما ذهبت مع وفد ترأسه هو للقاء إنديرا غاندى، بعد توليها رئاسة وزراء الهند. فقد تقرر عقد قمة ثلاثية لإنديرا مع عبدالناصر والرئيس اليوغوسلافى جوزيف تيتو، قطبى عدم الانحياز دعما للزعيمة الجديدة للهند. جلست أنا وعبدالرءوف الريدى خلف الرئيس لنكتب محضر اجتماعه مع إنديرا غاندى.
المرة الثانية كانت أثناء عملى بمكتب وزير الخارجية، محمود رياض، قبل هزيمة يونيو 1967م بأيام، وهو التاريخ الذى أعتبره نهاية صولجان عبدالناصر وبداية لتدهور الأحوال المصرية. قبل بدء الحرب قرر عبدالناصر إغلاق خليج العقبة، وسحب القوات الدولية من سيناء، وأغرق البلاد بأجواء تعبوية كبيرة. أذكر أن من بين الشعارات التى تم ترديدها فى الإعلام خلال هذه الفترة «العقبة قطع رقبة»، فى إشارة لمصير أى قوة إسرائيلية تحاول المرور من خليج العقبة بالبحر الأحمر. (التفاصيل الكاملة موجودة بالكتاب).
حدث ما حدث فى 5 يونيو، فأصبت بإحباط مهول. كنت حزينا جدا، مبعث حزنى أننى كنت قد بدأت أتلمس الحقيقة بعد مضى عدة ساعات لاندلاع القتال. كنا فى مكتب الوزير نعرف أن إذاعتنا وصحافتنا تكذب بشأن حجم الطائرات التى يتم الإعلان عن أننا أسقطناها؛ لأننا نستمع إلى إذاعات أجنبية كثيرة، ونطلع بانتظام على تقارير وكالات الأنباء ذات المصداقية، وكلها أجمعت على تقدم القوات الإسرائيلية فى سيناء.
بعد يومين من القتال كانت حقائق الموقف قد تبلورت أمام وزير الخارجية محمود رياض ومدير مكتبه السفير محمد شكرى، الذى رأيته خارجا من مكتب رياض قبيل ظهر 7 يونيو وهو فى حالة بكاء هيستيرى. وقع الرجل على الأرض مغشيا عليه من هول الصدمة على الرغم من رباطة جأشه المعروفة عنه، حيث كان ضابطا سابقا بالجيش. هنا بالضبط تيقنت بأن شكوكنا بشأن حدوث كارثة كبيرة قد تأكدت.
ساعدت شكرى بدعم من بعض العاملين فى المكتب على الوقوف حتى أفاق. أمرت السعاة بالانصراف، والرجل غير قادر على التوقف عن البكاء. سألته عما جرى، فقال: «كارثة.. اليهود وصلم قناة السويس». أصابتنى صدمة كبيرة وإحساس بالمهانة والإحباط على الرغم من أن كل الشواهد كانت تشير إلى وقوع هذه المصيبة. بدأنا نقول لأنفسنا إن الذى يجعل الكارثة تصل لهذا الحجم هو أننا بالتأكيد لم نكن مستعدين، وأن القرار السياسى الذى أدى إلى الحرب كان بالقطع خاطئا، وحساباته غير دقيقة، وتوقعاته غير سليمة تكاد تصل إلى حد المقامرة. لم يكن يصح أن نعَرض بلدنا لهذا التحدى المدمّر!.
غادر الوزير إلى اجتماع ما فى الأيام الأولى بعد تلك الكارثة الوطنية، وأغلق السفير شكرى مكتبه ليستريح بعض الشىء. ودخلت بمفردى غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتب الوزير. رصصت 4 كراسى بجوار بعضها كى أستطيع أن أستلقى عليها من فرط التعب والإرهاق. شعرت بإنهاك وإجهاد غير عادى. استلقيت على الكراسى وشبكت كلتا يدَىّ وأسندت بهما رأسى، وعيناى شاخصتان فى سقف الحجرة، ورحت أفكر بعمق.
صحيح كانت هناك انتقادات كثيرة لبعض الأوضاع، لكننى فى هذه الفترة من حياتى (31 سنة) لم أكن أنصت إليها، أو أقتنع كثيرا بها، مثل تراجع الإنتاجية الزراعية بعد تفتت الرقعة الزراعية على صغار الفلاحين فى الإصلاح الزراعى. كانت هناك شكاوى من تدخل البعض بتشويه بعض الحقب التاريخية على حساب أخرى، مثل تلك التى سبقت ثورة 23 يوليو 1952م، وكأن كل الأوضاع قبلها كانت شرا مستطيرا. كانت الأنباء تترى عن وجود صراعات بين القيادة السياسية الممثلة فى عبدالناصر، والقيادة العسكرية المتمثلة فى المشير عبدالحكيم عامر. كانت هذه من الأمور التى تبعث على قلق النخبة (على الأقل)، فضلا عما تواتر عن قمع أى بصيص للمعارضة، وما عرف عن تدجين الصحافة. كل ذلك شريط مر أمامى وأنا ملقى على كراسى غرفة الاجتماعات.
رحت أفكر.. كيف لهذه الهالة وهذه الأحلام البازغة أن تتحول إلى سراب؟!. كانت الهزيمة ثقيلة جدا، مهما حاول البعض من التخفيف منها بتسميتها «نكسة»؛ لأنها كانت هزيمة بكل معنى الكلمة، وكان من مقتضى هذه الهزيمة أن عددا كبيرا من الشباب ــ وأنا منهم ــ راح يتساءل من هول الصدمة: هل كنت مخطئا فى هذا التأييد العارم للنظام؟ هل اهتمام عبدالناصر بوضعه الخارجى على حساب الأوضاع الداخلية والبنية التحتية بمعناها المادى ومعناها المرتبط بالإنسان هو الذى قادنا إلى هذه الهزيمة؟. هل اعتبر الرئيس أنه أكبر من مصر؟ أم اختلط عليه الأمر فاختصر مصر فى شخصه.. ما هو جيد له جيد لمصر وربما ليس العكس؟. كان رأيى أن عبدالناصر مسئول كلية عما حدث. لقد كان 5 يونيو بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير 2011، ولا يقدح فى ذلك دور الرئيس السادات ونجاحه فى حرب أكتوبر؛ لأن ذلك لم يقترن بإصلاح واعٍ وشامل لأمور مصر.
انضممت خلال الحقبة الناصرية بـ«التنظيم الطليعى»، غير أن دورى فيه لم يكن كبيرا. الذى ضمنى إليه هو السفير فتحى الديب خلال عملى معه فى السفارة المصرية فى سويسرا. كان ذلك فى أوج سطوع نجم عبدالناصر خلال الثورة الجزائرية، التى كانت فى قلب السياسة الخارجية المصرية فى أوائل السيتينيات. عندما عدت إلى مصر من سويسرا أصبحت عضوا فى إحدى المجموعات التى كان مقررها السفير محمد شكرى. كانت النقاشات تتم حول السياسة الخارجية والأوضاع الداخلية والتصنيع، وكيف أننا نجحنا فيه «من الإبرة للصاروخ»، ولم نسأل أنفسنا ماذا نعنى بالإبرة والصاروخ؟.. خصوصا أن الأبرة وقتها لم تكن مصنوعة بشكل جيد، والصابون لم يكن يحدث رغوة، ولا «البشاكير» تجفف كما يجب!.
كانت مثل هذه الملاحظات على الصناعة تترسب فى النفس دون أن نشعر بها، لكنها مع الكثير من السلبيات الأخرى التى لم نتوقف أمامها من قبل صغيرة كانت أم كبيرة انفجرت مع الهزيمة وفقد سيناء. فى هذا الوقت أدركت أن حكم الفرد لم ينجح فى الحفاظ على تقدم البلاد وتحقيق رخائها أو أمنها خصوصا إذا كان مع شخص مهول مثل عبدالناصر، يمكن أن يؤدى بالبلد بقرار منفرد منه إلى مصير مجهول كما حدث بالضبط فى 5 يونيو. لم أحضر أى اجتماع للتنظيم الطليعى بعد 5 يونيو، ولم يسأل عنى أحد.
• انتصار أكتوبر 1973
طيلة السنوات الأربع (1960 ــ 1964م) التى قضيتها فى سويسرا لم أنس قط أن خيارى الأول فى العمل الدبلوماسى هو العمل فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة؛ ولذلك عند عودتى من برن، وعملى لمدة 4 سنوات بمكتب الوزير كنت مصرا على أن تكون وجهتى الخارجية التالية إلى هذه المنظمة الدولية الأكبر فى العالم. فى سبتمبر 1968م صدر قرار بتعيينى عضوا فى وفدنا الدائم لدى الأمم المتحدة، اختارنى السفير محمد عوض القونى، مندوب مصر الدائم فى ذلك الوقت لأعمل مع ممثل مصر فى اللجنة الثالثة، من لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيسية، والخاصة الخاصة بالمسائل الإنسانية وحقوق الإنسان.
بدأ نجمى يبزع فى أروقة هذه المنظمة الدولية الكبيرة خلال عملى بهذه اللجنة التى زادت أهميتها بعد أن قررت الدول العظمى وقف مناقشة موضوع الشرق الأوسط فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها، كى يتركوا الفرصة للسياسيين للعمل بعيدا عن الضغوط فى إطار مفاوضات واتصالات دبلوماسية، على أن تستمر مناقشة ما يتعلق بالجانب الإنسانى فى الصراع بين العرب وإسرائيل فى اللجنة الثالثة باعتبارها المعنية بالجوانب الإنسانية وحقوق الإنسان. من حسن الحظ أننى أصبحت مندوب مصر الرسمى الأول فى هذه اللجنة، وهنا كان التدريب الحقيقى على النقاشات العامة وضبط تشعبها، وصياغة القرارات، والدفوع المتعلقة بالإجراءات، ومناقشة الأمور الحساسة فى القضية الفلسطينية. بجانب أننى نجحت فى تكوين «لوبى» داخل هذه اللجنة من الدول العربية والإفريقية ومجموعة عدم الانحياز، كانت له الكلمة الفصل فى مناقشات هذه اللجنة. (تفاصيل ما قدمه السيد موسى داخل هذه اللجنة موجودة بالكتاب).
أنهيت فترة خدمتى الأولى فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة، وعدت إلى مصر فى 29 ديسمبر سنة 1972م، للعمل فى مكتب وزير الخارجية. فى 25 سبتمبر 1973م سافرت ضمن الوفد الذى رافق وزير الخارجية، الدكتور محمد حسن الزيات إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك. مضت الأمور عادية فى أروقة المنظمة الدولية الأكبر حتى مساء يوم 5 أكتوبر؛ فالأجواء فى نيويورك كانت تشير إلى أن شيئا ما قد يحدث فى الشرق الأوسط، مع تواتر أحاديث عن حشود عسكرية عربية وحشود إسرائيلية مضادة، لكننى بعد أن رجعت من حفل الإفطار الرمضانى الذى نظمه الدكتور عصمت عبدالمجيد المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة ــ آنذاك ــ للوزير وأعضاء الوفد المصرى بمنزله (يوم 9 رمضان 1393هـ/ 5 أكتوبر)، وبعد أن أنهيت بعض الأعمال خلدت إلى النوم نحو منتصف الليل. أيقظنى تليفون وكيل وزارة الخارجية، الدكتور أحمد عثمان عند السابعة والنصف صباحا بتوقيت نيويورك.
قال عثمان بلهجة سريعة «عمرو.. عمرو.. اصحى بسرعة.. الحرب قامت فى جبهة قناة السويس ويبدو إننا ماشيين كويس». انتفضت من على سريرى وأنا أقول له: «إوعى يكون نفس البيانات بتاعت زمان، وأننا أسقطنا 70 طيارة و80 طيارة». قال لى: «ربنا يستر.. تعالى بسرعة الوزير عامل اجتماع للوفد كله».
أعددت نفسى بسرعة البرق، وهرعت إلى مقر البعثة الذى يبعد بنحو 300 متر عن فندق «هامبتون هاوس» الذى أقيم فيه. بمجرد وصولى وجدت عثمان أمامى. كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحا (الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة). قال لى أنباء الحرب حقيقية، ويبدو أن قواتنا المسلحة قد بدأت عبور القناة. بدأنا نفرح لكن بحذر إلى أن يتم تأكيد المعلومات. ولما بدأت وسائل الإعلام الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية تؤكد من إسرائيل أخبار عبور الجيش المصرى لقناة السويس وتقدمه بطول الجبهة عمت الفرحة أوساط الوفد المصرى.
كان من دواعى سرورنا وفرحتنا العارمة أن وكالات الأنباء نفسها تقول إن «البيانات المصرية تبدو عليها الرصانة وعدم الاضطراب، بشأن عبور القوات المصرية للضفة الشرقية للقناة، وأنها تحظى بمصداقية فيما يخص الإعلان عن الخسائر وما حققته على الأرض من مكاسب». أصبح مقر البعثة المصرية قبلة للوفود العربية والإفريقية والدول الصديقة، فى حالة من الفرح الجماعى بما حققه الجيش المصرى، بعد أن كدنا نفقد ثقة العالم فى قدراتنا العسكرية، فى وقت وصل الصلف الإسرائيلى منتهاه.
عندما انعقد مجلس الأمن فى 8 أكتوبر، كانت القوات المسلحة المصرية قد أتمت عبورها إلى الشط الشرقى لقناة السويس، وصدت بمنتهى القوة الهجوم المضاد الرئيسى للعدو فى اليوم السابق، وهو ما انعكس بشدة على أدائنا أثناء جلسة مجلس الأمن، الذى دخلناه ونحن نشعر بقوة لم نشعر بها منذ احتلال أراضينا سنة 1967. جلس الزيات على رأس الوفد المصرى، وخلفه عصمت عبدالمجيد، المندوب الدائم، وأنا فى مقعد المشكو فى حقه، وجلس مندوب إسرائيل ومرافقين له فى مقعد الشاكى. جاءت لى ورقة من المستشار الصحفى يخطرنى فيها أن «خط بارليف قد سقط، وأن قواتنا تتمسك بمواقعها شرق القناة، وما معناه أنها صدت الهجوم المضاد الرئيسى للعدو، وأن عددا كبيرا من الجنود الإسرائيليين وقعوا فى الأسر».
أعطيت هذه الورقة للزيات، فقال لى اذهب وأعطها للسكرتير العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، الذى أعلن النبأ أثناء انعقاد الجلسة. وأثناء عودتى إلى مقعدى عشت أسعد لحظات حياتى. كانت الشرفات تضج بالفرحة العربية، كان بعض الدبلوماسيين يبكون بطريقة هيستيرية فرحا بالانتصار العربى على الغطرسة الإسرائيلية.
قلت: سبحان الله! فى ظرف 6 سنوات تغير الموقف من شرفات تهلل لانسحاب الجيش المصرى من سيناء وطلب وقف إطلاق النار فى يونيو 1967 وكانت الشرفات مليئة بيهود نيويورك، إلى شرفات تهلل لسقوط خط بارليف نهائيا فى 8 أكتوبر 1973 فى أيدى القوات المصرية. خطب الوزير الزيات خطبة فى منتهى البلاغة والمنطق تليق بالنصر المصرى. كان مفوها سواء تحدث بالعربية أو بالإنجليزية. قوبلت كلماته بالتصفيق الحاد من الشرفات، بل ومن عدد من الوفود على الرغم من أن ذلك لم يكن من تقاليد المجلس، ولكن يهود نيويورك صفقوا فى يونيو 1967 وجاء دورنا لنصفق. (يضم الكتاب مجموعة من الوثائق التى تبرز كيف أدار الوفد المصرى المعركة الدبلوماسية فى أروقة الأمم المتحدة خلال حرب أكتوبر 1973).
بعد سريان وقف إطلاق النار تعزز شعورنا بأن الاتصال بين الرئيس السادات ووزير خارجيته الزيات لم يكن كما يجب أن يكون الاتصال بين رئيس جمهورية ووزير خارجيته فى وقت تخوض فيه بلادهما حربا شرسة لتحرير الأرض. كان واضحا أن السادات على وشك تغيير الوزير واختيار إسماعيل فهمى، الذى ظهر أنه يعتمد عليه بشدة فى هذه الأثناء.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الوزير الزيات يعلم بموعد حرب أكتوبر قبل سفره إلى نيويورك؟ وهل كان فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية بين السادات وكيسنجر؟ أنا أعتقد بأن الوزير لم يكن بعلم بموعد بدء القتال، كما أنه لم يكن فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية.. لماذا؟ لأن بناء الإدارة المصرية وتوجهاتها ــ خلال هذه الفترة ــ لم يكن يهتم بأن ينفق وقتا كافيا لوضع وزير الخارجية فى الصورة، خصوصا أن وزيرا آخر (هو الوزير القادم إسماعيل فهمى) أصبح قائما بأعمال وزير الخارجية الموجود فى نيويورك لتمثيل مصر فى المعركة الدبلوماسية التى كانت قد بدأت بالفعل، وخاصة عند الاحتياج إلى وقف إطلاق النار أو إلى دور ما، إلا أننى أعتقد أيضا أن الاتصال الوحيد كان يتم من حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى ليضع الزيات فى الصورة تليفونيا(!).
• توارد الأفكار مع السادات
مضت الأيام بعد فض الاشتباك الثانى فى سبتمبر من سنة 1975م، رتيبة، وساطات كثيرة بيننا وبين الجانب الإسرائيلى من دون فائدة أو تقدم يذكر. فى هذه الأثناء ــ أو بعدها بقليل ــ لاحظت التوتر يتسلل إلى الوزير إسماعيل فهمى. بدأ الرجل يشعر بصورة أو أخرى بأن الرئيس يرتب لشىء ما من وراء ظهره، ومن هنا بدأت ظلال من الشك بين الرئيس ووزير خارجيته منذ أواخر 1976 وأوائل 1977. بدا أن مفترق طرق قادم فى العلاقة بين الرجلين يلوح من بعيد.
جاء موعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 1977م. سافرت ضمن وفد مصر مع الوزير فهمى. فى هذا الوقت.. ونحن فى الجمعية العامة ترسخت فى نفسى قناعة نتيجة للمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور مؤداها بأنه لا فائدة من كل الوساطات التى تتم بيننا وبين الإسرائيليين، سواء من اللجنة الرباعية، التى كانت ترفع تقارير إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو تلك التى يقوم بها الأمريكيون مع السادات، وغيرها، وأنه لا سبيل إلا بالتفاوض المباشر مع تل أبيب.
كان التفكير بهذه الطريقة عن لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين فى هذا الوقت المبكر بعد حرب شرسة دارت على جبهة قناة السويس ضربا من المجازفة غير المحمودة إذا تمت المجاهرة به، لكننى كدبلوماسى محترف قرأت الواقع فوجدت أننا نسير فى حلقة مفرغة، وما دمنا قد أدينا واجبنا بكفاءة نادرة على جبهات القتال فإنه آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها وجها لوجه كما تحرك السلاح وجها لوجه.
أول من عبرت له عن قناعتى بضرورة التفاوض المباشر مع الإسرائيليين، السفير محمد إسماعيل، (السكرتير الثالث فى ذلك الوقت) نجل المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، إبان حرب أكتوبر. كان إسماعيل عضوا فى بعثة مصر بالأمم المتحدة وفى يوم من أيام وجودنا فى نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة دعوته لأن يمشى معى فى حديقة الأمم المتحدة لنسرى عن أنفسنا ونتحدث فى بعض الأمور. كان يستعد للسفر إلى القاهرة لتوصيل رسالة يدا بيد من إسماعيل فهمى إلى السادات عن انطباعات الوزير ونتائج اتصالاته والإعداد للقاء كارتر.
سألنى إسماعيل عن رأيى فى مسار التفاوض مع الإسرائيليين بعد أن سكتت المدافع على الجبهة. قلت: «يا محمد كل ما نقوم به بلا جدوى.. لابد من اتصال مباشر الآن بيننا وبين إسرائيل. أرى أن نطرح هذا الأمر للمناقشة فى وزارة الخارجية وعلى مستوى صناعة القرار فى الدولة بكاملها.
الأمور يا محمد وصلت إلى نقطة الصفر. ما نسمعه من السكرتير العام للأمم المتحدة فالدهايم (كلام فاضى)، وما نسمعه من الأمريكان (كلام غير واضح فى منطلقاته وغير مضمون فى نتائجه) وما نسمعه من السوفييت لن يؤدى إلى شىء؛ ولذلك لا أرى فائدة لـ(القومسيونجية) أى السماسرة، إذا كانت الأمور على هذا النحو دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة مع الإسرائيليين».
من المفارقات أن ما كان يدور فى ذهنى فى هذه الفترة كان هو ما كان يدور فى عقل الرئيس السادات، وطبعا لم تكن هناك أى لقاءات أو أحاديث جرت مع الرئيس فى هذا الشأن، فموقعى فى وزارة الخارجية لم يكن يتيح لى الالتقاء به، لكن يمكن اعتبار ذلك نوعا من توارد الخواطر بين رجلين.. كل بقدر طبعا. كان تفكيرى منصبا على تواصل ما لأجهزة الدولة المصرية مع نظيرتها الإسرائيلية للبحث عن حلول، أو ربما على مستوى دبلوماسى مؤهل على أقصى تقدير، لكن الرئيس السادات أخرج أفكاره فى شكل درامى: مبادرة للسلام، وزيارة إلى القدس، وهو الذى لم يخطر فى بالى على الرغم من توارد الأفكار بشأن الحوار المباشر. (يضم الكتاب نص شهادة مسجلة للسفير محمد أحمد إسماعيل عن هذه الواقعة).
• محاولات تهميشى بالوزارة
فى 25 ديسمبر 1977 تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذى ظل شاغرا منذ استقالة إسماعيل فهمى فى 18 سبتمبر من نفس العام. مع تولى الوزير الجديد منصبه بدأ بتهميش كل من اعتبرهم وبعض مساعديه رجال إسماعيل فهمى فى الوزارة. وكنت بالطبع واحدا منهم؛ وبالتالى لم أكن ضمن المجموعة التى شاركت فى مفاوضات كامب ديفيد. لم يقتصر الأمر على استبعادى من المشاركة فى هذه المفاوضات المصيرية، بل جرت محاولات لإبعادى من منصبى مديرا لإدارة الهيئات الدولية. جاءنى المرحوم عبدالمنعم غنيم، وكان العضو الأقدم فى مكتب الوزير ناقلا إلىّ عرضا لأكثر من منصب، منها: قنصل مصر فى سان فرانسيسكو، والقائم بالأعمال فى أيرلندا. حاولوا تزيين هذه الأماكن فى عينى، لكننى رفضت بشدة.
الأشهر التسعة التى قضاها إبراهيم كامل فى الوزارة كانت من أصعب الفترات التى عرفتها فى مسيرتى المهنية حتى ذلك التاريخ. كان هناك نوع من الغيرة القاتلة تجاهى من المجموعة المحيطة به فأوغروا صدره ضدى، لكنى بكل ما أستطيع حاولت تجنب سهامهم.
فى هذه الأثناء دار حوار بينى وبين صديقى أحمد أبوالغيط، الذى كان يعمل معى فى إدارة الهيئات الدولية، وكان مطلعا على الأمور الخاصة بسياسة التضييق علىّ من قبل المحيطين بالوزير. حدثنى أبوالغيط مؤيدا السياسة التى اتبعتها مشيرا إلى «نظرية الانسحاب والعودة المظفرة للشخصية التاريخية «withdraw and return of the historical figure» للمؤرخ البريطانى الشهير «أرنولد توينبى»، التى وردت فى كتابه «دراسة للتاريخ». قال لى أبوالغيط: «بموجب هذه النظرية فإن انسحابك من المسرح ضرورى انتظارا لعودتك مظفرا مرة أخرى.. إن لك مستقبلا باهرا؛ ولذلك عليك بمقاومة الهجوم عليك بالانسحاب من المسرح لفترة، ثم اشحذ همتك وجهز نفسك وقدراتك لعودة مظفرة»، وقد كان.
انتهت فترة التضييق باستقالة إبراهيم كامل عشية التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، يوم 16 سبتمبر 1978. بعدها استقل بطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية بالوزارة. كان غالى شخصية إيجابية وطنية حرفية، وكثير الاطلاع فى الفلسفة والأدب والموسيقى وغيرها، وفى الوقت نفسه كان السادات يأنس إليه، فوضعه كوزير للدولة للشئون الخارجية.
عين مصطفى خليل رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية فى 5 أكتوبر 1978م، قبيل مباحثات «بلير هاوس». قال خليل لبطرس: «أنا وزير الخارجية «من برَة» فقط، وأنت يا بطرس الوزير الفعلى»، وعندها بدأ غالى البحث عن فريق قوى يعمل معه. هناك من نصحه بالاعتماد على عمرو موسى، وذكره بأن إسماعيل فهمى يعتمد عليه فى أمور كثيرة مهمة حتى أنه عينه استثنائيا مديرا لإدارة الهيئات الدولية، على الرغم من أن درجته لم تكن تسمح بذلك. ومنذ هذه اللحظة بدأ يعتمد علىّ بشدة، خاصة فى الحرب الدبلوماسية ضد الدول العربية التى حاولت عزل مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
مصر ما بعد كامب ديفيد
بعد إعلان السادات فى 9 نوفمبر 1977م أمام مجلس الشعب استعداده للتوجه إلى زيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكينست الإسرائيلى لتحقيق السلام، شكلت ليبيا، وسوريا، والعراق، منظمة التحرير الفلسطينية وأيدتها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهو ما عرف باسم «جبهة الرفض» أو «جبهة الصمود والتصدى» بناء على دعوة الرئيس الليبى معمر القذافى. قرر أعضاء هذه الجبهة فى ديسمبر 1977م تجميد العلاقات مع مصر. واستطاع القذّافى ومعه سوريا تحويل الجبهة إلى كيان سياسى يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربى. وتمكنت من أخذ موافقة أعضاء الجامعة العربية على قرار ينص على طرد مصر من الجامعة إذ استمرت على نهجها، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
بعد ذلك انعقدت القمة العربية فى بغداد سنة 1978م وهى القمة التى أرسلت بعثة للتحدث مع السادات وعرض تقديم 5 مليارات دولار مساعدات مالية لمصر بشرط تراجعه عن السلام، فرفض مقابلتهم كما رفض العرض؛ فعملت الجبهة على طرد مصر من العديد من المنظمات الدولية؛ فوقع على عاتقى باعتبارى مديرا للهيئات الدولية بوزارة الخارجية عبء كبير فى التصدى لهذه المحاولات.
المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت فى مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامى العاشر فى فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر الذى كان مقررا افتتاحه فى 8 مايو 1979م. وعندما شرعت القاهرة، فى التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة.
كنت عضوا فى الوفد المصرى الذى تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامى، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامى يتعامل دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر فى مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان فى أثناء التحضير للقمة يعطى مواعيده دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب...»، وهو ما جعلنى أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامى، وكانت الأدبيات السياسية مليئة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة.
جاءت ساعة السفر، وبينما نحن فى صالة كبار الزوار بمطار القاهرة تلقى التهامى مكالمة هاتفية تفيد بأن «العرب لن يتركوكم وشأنكم فى المؤتمر.. وقد يتعرض أعضاء الوفد للاعتداء». بعدها بدأ التهامى يشيع بين أعضاء الوفد أن الأمور ستكون صعبة علينا، وأن مسألة طردنا من «المؤتمر الإسلامى» ماضية إلى النهاية، وبالتالى لابد من عدم السفر قبل أن نجتمع بمبعوث المنظمة الذى نصح ملك المغرب بالاستماع إليه قبل السفر. كان رد الكثير من أعضاء الوفد على التهامى بعبارة «اللى تشوفه»؛ لكننى قلت له: «يا حسن بك.. يجب أن نسافر ونحضر القمة.. ذهابنا سيمكننا من تغيير الموقف، وربما نتمكن من استصدار قرار جيد أو منع قرار سيئ، أما الغياب فسيكون ضارا بمصلحة مصر».
لكن الذى حدث أنه فى 6 مايو 1979، وصل إلى القاهرة السفير يوسف سيلا، مبعوثا من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى. بغرض إقناع الحكومة المصرية بعدم حضور المؤتمر، لتفادى حدوث مجابهة مع بعض الدول العربية، التى قطعت علاقاتها مع مصر، موضحا أن وفود بعض الدول ستنسحب من المؤتمر إذا حضر الوفد المصرى. أسفرت هذه التطورات عن غياب مصر، وانتهى المؤتمر بتعليق عضويتنا فى المنظمة.
• موقعة سريلانكا
نجاح «جبهة الرفض» فى تجميد عضوية مصر فى الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامى» ــ دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجها لوجه ــ شجعها على المضى قدما فى محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدى له بمنتهى القوة والحزم والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتبارا من الاجتماع الوزارى لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذى انعقد فى كولومبو بسريلانكا فى يونيو 1979م، وهو اجتماع تحضيرى للقمة التى كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد فى هافانا خلال شهر سبتمبر من نفس العام.
والحقيقة أن وزارة الخارجية وفى القلب منها إدارة الهيئات الدولية التى كنت أترأسها قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» فى عزل مصر بإخراجها أو تجميد عضويتها فى المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حربا دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدى لها بشجاعة وبسالة.
وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعى الجبهة لوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، انطلاقا من المعلومات التى وفرتها السفارة المصرية فى سريلانكا فى هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل فى الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلا من التخندق فى مواقع دفاعية.
كانت اللجنة التحضيرية فى هذا الاجتماع الوزارى تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات فى دول الحركة، الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شىء أبدا دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعا. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا فى الجانب الآخر، وأصبحت وحدى ضدهم فى هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع إسرائيل.
كان رئيس الجلسة سفيرا من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبى) وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالى لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزا؛ فبحثت عن نقاط الضعف التى يمكن أن أستفيد منها فى التراشق الذى أعرف أنه قادم لا محالة.
بدأت مناقشة البند الخاص بالشرق الأوسط، والذى يتضمن مشروع قرار مقدما من دول «الرفض» بوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية. كان هجوم بعض الوفود العربية، لاسيما أعضاء «الرفض» شديدا ضدنا، لكن نبرة الدول الأخرى كانت أقل فى حدتها بنسبة تصل إلى 50%؛ فالدول العربية لديها إصرار كبير على طردنا من الحركة، أما الدول الإفريقية والآسيوية فغير متحمسة، كان حديثهم فى الجلسة يصل إلى حد لوم مصر على توقيع اتفاقية السلام لوما شديدا، لكنه لا يصل إلى حد المطالبة بطردها من الحركة.
تابع رئيس الجلسة المعركة حامية الوطيس مع ممثلى «الرفض»، وقال: أرى أن هناك «consensus» (توافق آراء) على طرد مصر من الحركة، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وبالتالى سيرفع القرار إلى اللجنة الوزارية، التى سترفعه بدورها إلى القمة المقبلة فى كوبا.
وبينما يرفع رئيس الجلسة يده بالمطرقة لإعلان «توافق الآراء» صرخت فيه بأعلى صوتى: قف «stop»، فتوقف الرجل و«كش» وأنزل يده، ونظر لى، ولم يعلن اتخاذ القرار. فى هذه اللحظة دخل مندوب الهند على الخط، وقال له: سيادة الرئيس أرى أنك متعجل فى إعلان «توافق الآراء»، وطلب «نقطة نظام»؛ فأعفانى من القيام بمناورة أو مماطلة سياسية «filibuster» كنت أستعد للقيام بها، عبر إلقاء خطبة طويلة جدا لإضاعة وقت الجلسة، وهو ما جعلنى أحتفظ بهذا الإجراء لوقت لاحق.
بدأ بعض العرب الذين كانوا مائلين لصف مصر مثل سلطنة عمان والصومال فى التدخل. قالوا لرئيس الجلسة: ليس من الطبيعى أن تقول إن هناك (توافق آراء) على طرد مصر، ونحن لم نأخذ فرصتنا فى الحديث والتعبير عن مواقف بلادنا من هذا الأمر. عندها أخذ رئيس الجلسة فى اعتباره أن هناك وفودا لدول لا تتحدث بذات اللهجة المتشددة ضد مصر، وأنها لم تعبر بعد عن مواقف بلادها، وأنه من المبكر اعتبار أن هناك «توافق آراء» بشأن هذا البند الخاص بالشرق الأوسط.
جاءنى فى اليوم التالى رئيس الجلسة، وقال لى: سيد موسى سأقول فى تقريرى الذى سيرفع للوزراء: «كان هناك رأى أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفى المقابل كان هناك رأى يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافيا جدا بالنسبة لى لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم» الانحياز فى مهده باللجنة التحضيرية.
يمكننى القول: إن صرختى هذه فى رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» فى إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيدا كتوصية رسمية إلى قمة كوبا.
• تجدد الحرب فى هافانا
خلال الفترة من 3 ــ 9 سبتمبر 1979م انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز فى هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبى فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السورى حافظ الأسد، والرئيس العراقى صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية فى أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشئون الخارجية، بطرس غالى، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبدالمجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقى، ليدعمه باتصالاته الإفريقية.
كان الهجوم عنيفا على مصر فى اللجنة السياسية، التى كان يترأسها السفير عصمت كتانى وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة وهو من الأكراد العراقيين وكان شخصية جيدة جدا وعاقلة بل وراقية، وكان لى معه بالطبع سابق معرفة.
فى بداية الجلسة قلت لكتانى ــ الذى تقود بلاده «جبهة الرفض» ــ أريد التحدث فى البداية لمدة 5 دقائق، وذلك فى البند الأول الخاص بمصر ووضعها (وذلك حتى يكتمل حضور الدول الداعمة لمصر والتى تم الاتفاق معها على موقف واضح ضد طرد مصر من الحركة)، فرد على الرجل باسما بقوله: «charity begins at home»، وهو ما معناه بالمثل المصرى الدارج «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع». كان كتانى متمرسا وكان يتوقع ما سأقوم به، ومن هنا لجأت إلى تكتيك الـ«filibuster» أى «المماطلة الخطابية»، وتضييع وقت الجلسات فى المناكفات والمناقشات، وتمكنت من كسر «توافق الآراء» داخل هذه اللجنة على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، بعد أن تكتل معنا نحو 17 دولة، فى مقابل 20 دولة أخرى ضدنا. وكان تقرير اللجنة الذى قدمه رئيسها إلى القمة يماثل ما صدر عن المجلس الوزارى فى سريلانكا بأن الأغلبية تؤيد تعليق عضوية مصر فى الحركة ولكن هناك أقلية معارضة، وهذا كاف لنسف توافق الآراء.
الوفدان السورى والفلسطينى كانا فى غاية القسوة ضد مصر فى هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلى مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعا فى هذا الأمر. لكننى أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقى، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لى: «لا تؤاخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصيا.. وهى السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال فى جلسة هادئة للغاية، فنظرالكل إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذى خسر كثيرا جدا من مصداقيته بهذه اللقطة، ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى فى الجلسة! وربما يسهران معا. وانتهت المناقشات التاريخية فى اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لصالح الطرد والأقلية غير موافقة.
• موقف تاريخى لكوبا
وصلنا جلسة افتتاح القمة على مستوى رؤساء الوفود، والمذاعة على مختلف إذاعات وتلفزيونات العالم. شن حافظ الأسد وصدام حسين وعدد من العرب وبعض الدول الأخرى هجوما كاسحا ضد مصر. كان رئيس الجلسة هو الرئيس الكوبى كاسترو، وكان بطرس غالى يترأس وفد مصر وكان عصمت عبدالمجيد وأحمد صدقى وأنا وآخرون خلفه. فى أثناء الهجوم علينا سألنى غالى: متى سنتحدث؟ قلت: أمامنا وقت طويل جدا.. ودورنا ليس فى الجلسة الافتتاحية. قال: وما العمل إذن؟
قلت: دعنى أجرى محاولة لاقتناص دقائق فى هذه الجلسة الافتتاحية التى تسلط عليها الأضواء. توجهت إلى سكرتير عام المؤتمر، وهو المندوب الدائم لكوبا لدى الأمم المتحدة آنذاك «ريكاردو آلاركون»، وأصبح بعد ذلك رئيسا لمجلس النواب فى بلاده، وكانت تربطنى به علاقة طيبة..
صعدت إلى المسرح الذى يجلس عليه كاسترو وعلى يمينه وزير خارجية وعلى يساره آلاركون.. كانت القاعة صامته ورزينة فهى مليئة بالرؤساء. همست فى أذن آلاركون: أنت ترى الهجوم الكاسح على مصر.. نريد أن نتحدث فى الجلسة الافتتاحية. رد دون تفكير: «very difficult» صعب جدا.
قلت: اسمعنى.. أنتم كوبا.. ونحن مصر أقدم دولة عربية لكم علاقات معها. لا نريد منكم أكثر من حق الرد فى موعد مناسب. قال: ماذا تقصد بموعد مناسب؟ قلت: فى هذه الجلسة، وبناء على نقطة نظام إذا أردتم. قال: سأحاول.. وسأرسل لك رسالة بالرد.
عدت لمقعدى. قلت لغالى احتمالات منحنا الكلمة موجودة، ولكنها لا تزيد على 50%. جهز نفسك للرد متى يجيء، فاستعد الرجل. انتهت قائمة المقرر لهم الحديث فى الجلسة الافتتاحية، وإذا بكاسترو بصوته ذى الذبذبات الخاصة يقول: أدعو رئيس الوفد المصرى لـ«نقطة نظام»، وهنا قام غالى بالرد على من هاجمونا بلغته الفرنسية الرشيقة فأفحمهم.
فى المساء كان الوفد يجتمع على العشاء للحديث عما سنفعله فى الغد، وأذكر فى هذا الوقت أن محمد كريم العمرانى، وهو شخصية مغربية كانت مقربة من العاهل المغربى الراحل، الملك الحسن الثانى، وشغل منصب رئيس الوزراء وكان ضمن وفد بلاده فى القمة ــ جاء لمقابلة بطرس غالى مرتديا «شورت وبرنيطة ونظارة سوداء فى المساء» حتى لا يعرفه أحد، وعمل الشقيق المغربى على تقليل التوتر فى حديثه مع بطرس، وتأكدنا منه بأنه لن يكون جزءا من أى «أوركسترا» ستعزف ضدنا.
الواقع أننا ــ فى هذا الوقت ــ كنا قد كسبنا المعركة فى اللجنة السياسية، التى انتهت دون توافق على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، كما كسبنا معركة إعلامية مهمة بالرد على الهجوم علينا فى الجلسة الافتتاحية المذاعة وسنلعب بنفس الطريقة فى القمة حتى لو تحايلوا بأى شكل من الأشكال.
فى اليوم التالى تحايلوا فعلا وطلبوا انعقاد مكتب المجلس الذى يضم العراق وسوريا وليبيا، وقالوا: لو خرجنا من الاجتماع ومصر باقية فى الحركة سنخرج منها، ولابد من صدور قرار بطردها. وقد أطلعنى «آلاركون» على ما يدفع العراق وسوريا فى اتجاهه، قلت له: استخدم أعنف لغة تريدها ضدنا ولكن بدون قرار، وأبلغت بطرس بكل ذلك فوافق عليه.
عاد «آلاركون» إلىّ ثانية وقال: اللهجة العنيفة ليست كافية. قلت له: بإمكانك تحويل الأمر حتى يهدءوا إلى مجموعة عدم الانحياز الوزارية فى الأمم المتحدة لمتابعة هذا الموقف واتخاذ توصية، وإذا كانت الأمور صعبة فحدد موعد الاجتماع بالضبط، ولكن لا قرار من هافانا أو توصية وإنما تقرير كالمعتاد يحوى القرارات ويلخص المناقشات، خاصة أن وزراء الخارجية سيكونون هناك بالفعل بعد أيام لحضور اجتماعات الجمعية العامة، وهو ما حدث بالفعل، وتحول الأمر بالفعل إلى الأمم المتحدة، وهناك تصدى لهم مندوب مصر الدائم عصمت عبدالمجيد، ولم يستطع أحد إخراج مصر من حركة عدم الانحياز.. وانتهى الأمر.
تحدث معى أحد وزراء الخارجية فى أمريكا اللاتينية فيما بعد ذلك بسنوات، بأن مندوب كوبا فى اجتماعات مجموعة عدم الانحياز من الدول اللاتينية خلال قمة هافانا ذكر لهم أن مصر لن تطرد من الحركة فى هافانا.
• اغتيال الرئيس السادات
فى سبتمبر سنة 1981م انتقلت للعمل فى نيويورك نائبا للمندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة، عصمت عبدالمجيد. وفى فجر 6 أكتوبر بتوقيت نيويورك اتصل بى صحفى أمريكى قائلا:«حدثت مذبحة فى القاهرة فى عرض عسكرى. جرح أناس كثيرون ومنهم الرئيس السادات». بعده بقليل اتصل بى صحفى آخر وكرر نفس الكلام، ثم اتصل بى صحفى مصرى وقال لى: يبدو أن الرئيس السادات قد قتل.
كنت أنا من يترأس الوفد المصرى فى الأمم المتحدة لأن عبدالمجيد كان يؤدى مناسك الحج. اتصلت بوزارة الخارجية فى السابعة صباحا بتوقيت نيويورك (نحو الثانية بعد الظهر فى القاهرة) لأسأل عما حدث فى مصر، فوجدت تحفظا فى الرد؛ فطلبت مدير مكتب الوزير، وقلت له: أنا أسأل عن مصير الرئيس السادات ولا أحد يجيبنى، وأنا عندما أسأل عن هذا الأمر، فذلك ليس مرده الفضول الشخصى من جانبى، ولكن لأنه فى حالة ما إذا كان الرئيس قد قتل فعلا، فلابد أن نرتب له حفل تأبين يليق به فى الأمم المتحدة، وإذا بدأنا فى هذه الإجراءات والترتيبات مبكرا فسوف نستطيع عقد جلسة خاصة للجمعية العامة اليوم، ندعو فيها وفود الدول لتأبين الرئيس؛ ولذلك أرجو أن أحاط علما بالأمر فى ظرف ساعة على الأكثر.
كلمت الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، فوجدته على علم بالتطورات التى وقعت فى القاهرة، لكن لا علم له بمصير الرئيس السادات. قلت له: يبدو أن الأمر خطير واحتمالات وفاة الرئيس السادات تبدو قائمة، وأطلب من الآن عقد جلسة خاصة للجمعية العامة لتأبينه، فوافق الرجل، وقال لى: سأبلغ مساعدى ليستعدوا لذلك، وسأكون على اتصال بك.
فى هذه اللحظة كلمنى أحد السفراء من القاهرة، قال لى: أنا أتحدث إليك من مكتب الوزير وأود أن أخطرك بأن الرئيس قد مات بالفعل، لكننا لا نريد إعلان ذلك الآن. قلت له: أنتم لا تريدون إعلان مقتل الرئيس الآن؟.. لكننى أود أن أبلغك بأن هذا الأمر أصبح شائعة/ معلومة تدور فى أركان العالم الأربعة.
جلست أتابع التحضيرات لجلسة الجمعية العامة فى مكتبى بمقر البعثة قرابة الساعتين، توافد خلالها كثيرون لتقديم العزاء، كان على رأسهم: السيدة جاكلين كيندى، وعمدة نيويورك، وشخصيات أمريكية رفيعة، وعدد من أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب الأمريكيين الموجودين فى نيويورك بمناسبة دورة الجمعية العامة.
فى جلسة التأبين التى انعقدت فى الثالثة عصرا كانت المفاجأة بالنسبة لى هى أن مندوب إسرائيل طلب الكلمة. لم أشعر بالارتياح. كان بإمكانى ببعض المناكفات أن أمنع ممثل إسرائيل من التحدث، لكننى أردت أن تمر المسألة فى هدوء، وأردت للجلسة أن تمضى فى جو من المهابة التى تليق بالرحيل المفاجئ لرئيس مصر. بعد أن انتهى من كلمته جاء مندوب إسرائيل مهرولا فى اتجاهى والكل ينتظر ما سيحدث، لكننى وقفت متوقعا أن يظهر عواطفه الجياشة والواضحة بعناقى. طلبت من أحد الزملاء أن يلتقى بالسفير الإسرائيلى قبل أن يصل إلىّ بمترين أو ثلاثة ويسلم عليه ويعطله ولو لثوان تتراجع خلالها حماسته، وهو بالفعل ما تم، ثم مددت يدى بصلابة وسلمت عليه بطريقة رسمية. شعر الرجل بأننى غير مستعد لأن أذهب أبعد من ذلك، فشد على يدى وتمتم ببعض عبارات العزاء وعاد إلى مكانه.
السادات كان يعتبر نفسه أكبر من الدبلوماسية المصرية كلها، ومن المواقف التى تدل على ذلك ما رواه لى بطرس غالى عندما ذهب إليه فى استراحة الرئاسة على شط قناة السويس فى الإسماعيلية بعد أن نجحنا فى دحر محاولات «جبهة الرفض» من طردنا من حركة عدم الانحياز، أو تعليق عضوية مصر فيها.
قالى لى غالى: لقد ذهبت للرئيس السادات فى استراحته بالإسماعيلية والسفن تمر من أمامه فى القناة. كان يجلس على كرسى مثل كراسى «البلاجات»، وهو ممسك بغليونه الشهير. شرحت له كيف تصدينا لجبهة الرفض فى كوبا وأنا فخور بما حققناه، وما كان منه إلا أن أمسك بحفنة من التراب وقال لى: «عارف يا بطرس كل الكلام اللى أنت قلته ده واللى قالوه ضدنا فى كوبا ميساويش حفنة التراب المصرى دى». وهو ما معناه: أن ما قمتم به أمر جيد، ولكن الأهم هو التراب الذى حررته بالحرب والسلام.
كان السادات رجلا جريئا يقال له فى العامية «باجس» أى لا يهتز بسهولة، لكنه كان فرعونا مثل عبدالناصر، ويستبد برأيه مهما حذره المحيطون منه. ويرى فى أطروحات القريبين منه «مجرد كلام يقولوه ويعيدوه».. أما رأيه فهو الأصوب.. باختصار كان عبدالناصر والسادات دكتاتورين لا يأبهان بالرأى الآخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة