ارتبطت الدبلوماسية الأمريكية، منذ بزوغ نجم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على الساحة السياسية فى الولايات المتحدة، بمصطلح "الانسحاب"، سواء من المعاهدات أو الاتفاقات، أو حتى بعض المنظمات الدولية، فى إطار سياسة الضغط التى تتبناها الإدارة الحالية على الخصوم والحلفاء على حد سواء، لإجبارهم على الرضوخ لرغباتها سواء اقتصاديا أو سياسيا، وهو ما بدا واضحا فى قرارات الولايات المتحدة بالانسحاب من الصفقة النووية الإيرانية واتفاقية باريس للمناخ، والمجلس الدولى لحقوق الانسان، وكذلك منظمة اليونسكو، بالإضافة إلى تخليها عن التزاماتها التجارية الموثقة باتفاقات مع الحلفاء، بحجة استعادة التوازن التجارى من جديد.
إلا أن إدارة ترامب، على ما يبدو، لم تكتف برقمها القياسى فيما يتعلق بانسحاباتها من الاتفاقات والمنظمات التى وضعت على عاتقها الإلتزام ببنودها ومبادئها منذ سنوات، حيث أنها مازالت تستخدم سلاح "الانسحاب" كوسيلة للضغط من أجل تحقيق رؤيتها فى مختلف الملفات الدولية، وهو ما تكرر مؤخرا بالحديث الأمريكى عن مسألة الانسحاب من معاهدة إزالة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتى تم توقيعها فى السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفيتى، على خلفية اتهام أمريكى لروسيا بانتهاك الاتفاقية، وهو ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت التصريحات الأمريكية تمثل مقدمة لابتزاز روسيا فى ظل تنامى الخلافات حول العديد من القضايا الدولية والإقليمية.
كلمة السر.. هل تكون إسرائيل وراء الانسحاب الأمريكى؟
لو نظرنا إلى الانسحابات الأمريكية السابقة، نجد أن إسرائيل كانت بمثابة القاسم المشترك بين معظمها، فى ظل الدعم الكبير الذى تقدمه إدارة ترامب للدولة العبرية منذ البداية، وهو ما بدا واضحا فى القرار الأمريكى بالانسحاب من المجلس الدولى لحقوق الإنسان، واليونيسكو، أو قراره بالانسحاب من الصفقة النووية الإيرانية، فى خطوة أحادية، تجاهلت فيها الإدارة الأمريكية الحلفاء الأوروبيين، فى محاولة لإرغام طهران على تقديم المزيد من التنازلات للجانب الأمريكى، بحيث لا تقتصر فى أفاقها على مجرد الأنشطة النووية، وإنما تمتد لطبيعة الدور الإيرانى فى المنطقة، لاحتواء التهديدات التى تفرضها الدولة الفارسية على الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل، سعيا وراء النفوذ.
وهنا كانت سياسة "الانسحاب" الأمريكية وسيلة تتبناها إدارة ترامب، منذ بداية وصولها إلى السلطة، لابتزاز الأطراف الدولية الأخرى لتحقيق أهدافها وأهداف حليفتها المدللة فى الشرق الأوسط، وبالتالى فإنه يبقى من غير المستبعد أن تتجه واشنطن لتبنى نفس النهج للضغط على موسكو، فى ظل تنامى الخلافات فى العديد من القضايا، خاصة فيما يتعلق بالمستجدات فى الأزمة السورية، والدور الذى تلعبه طهران فى سوريا، وهو الدور الذى يمثل قلقا متزايدا للحكومة الإسرائيلية فى المرحلة الراهنة، والتى سعت خلال الشهور الماضية نحو الوصول إلى صفقة مع موسكو من شأنها سحب القوات الإيرانية من سوريا، وخاصة منطقة الجولان.
زيارة بولتون لموسكو.. الوجود الإيرانى فى سوريا أولوية
ولعل الحديث الأمريكى عن الانسحاب من معاهدة إزالة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتى ترجع إلى عام 1987، يتزامن مع الزيارة التى يجريها حاليا مستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون إلى العاصمة الروسية موسكو، وهو أحد الشخصيات المعروفة بمناوئتها إلى إيران، بل ومعروف كذلك بدعمه لفكرة عزل إيران عن القيام بأى دور فى مستقبل الدولة السورية، وبالتالى سيكون الوجود الإيرانى فى سوريا هو أحد القضايا الرئيسية على أجندة الاجتماعات التى سوف يعقدها مع المسئولين الروس.
موقف جون بولتون تجاه طهران ليس بالأمر الجديد تماما، حيث أنه يمثل أحد أبرز الصقور الأمريكيين تجاه الدولة الفارسية، ففى خلال وجوده بوزارة الخارجية الأمريكية تحت إدارة وزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن باول فى الفترة بين عامى 2002 و2004، سعى للتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية لاستهداف طهران، حيث كان يخطط لنقل الملف النووى الإيرانى من إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى مجلس الأمن الدولى، تمهيدا لشن هجوم دولى على إيران.
ولم يقتصر عداء بولتون لطهران على حقبة بوش الإبن، وإنما كانت عودته للمشهد السياسى الأمريكى مرتبط إلى حد كبير بخطوة الانسحاب الأمريكى من الصفقة النووية الإيرانية، والتى اعتبرها الكثير من المتابعين انتصارا ساحقا لإسرائيل على المستوى الدبلوماسى، حيث تم تعيينه فى مارس الماضى، خلفا لهربرت ماكماستر، والذى بقى متمسكا بالاتفاق النووى الإيرانى رغم موقفه العدوانى تجاه الدور الإقليمى الذى تلعبه إيران فى منطقة الشرق الأوسط.
يبدو أن التوتر الأخير فى العلاقات بين روسيا وإسرائيل، على خلفية إسقاط طائرة روسية فى سوريا، هو أحد القضايا التى ربما تركت تداعياتها على الموقف الأمريكى، خاصة وأن الحادث ربما أغلق الباب بصورة كبيرة أمام أى تقدم فى المحادثات الروسية الإسرائيلية حول الدور الإيرانى فى سوريا، والذى تسعى الدولة العبرية إلى تقويضه تماما فى المرحلة المقبلة، باعتباره تهديدا صارخا لأمنها القومى، خاصة بعد أن أقدمت الحكومة الروسية على تزويد القوات السورية بصواريخ "إس 300"، وهو الأمر الذى أثار حفيظة الحكومة الإسرائيلية.
تطويق طهران.. واشنطن تسعى لاسترضاء إسرائيل
الجهود الأمريكية الحالية ربما تأتى فى إطار المساعى التى تتبناها إدارة الرئيس ترامب لتطويق طهران منذ الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى فى مايو الماضى، خاصة مع اقتراب دخول العقوبات الأمريكية على الدولة الفارسية حيز النفاذ فى نوفمبر المقبل، حيث تسعى واشنطن لتضييق الخناق على نظام الحكم الإيرانى لإجباره على تقديم التنازلات فيما يتعلق بالأنشطة الإيرانية المشبوهة فى الشرق الأوسط.
إلا أن الرفض الروسى الأوروبى للعقوبات الأمريكية على إيران، يمثل صداعا فى رأس الإدارة الأمريكية فى المرحلة الراهنة، خاصة وأن الرئيس الأمريكى قد سبق له وأن أطلق تحذيرات صريحة للدول التى ستحاول التخفيف من حدة العقوبات الأمريكية، وبالتالى فإن الحديث الأمريكى عن الانسحاب من اتفاقية الصواريخ ربما تأتى فى إطار السياسة الأمريكية التى تهدف إلى فك الارتباط بين موسكو وطهران فى المرحلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة