«كانت نوبات متقطعة من الغيبوبة تأتى نجيب سرور. وصل الفشل الكبدى لمنتهاه، وكان يفيق بالكاد ليشرب بعض الماء ويخطرف بكلام غير مفهوم.. أغمض عينيه هامسا بصوت موهن لشقيقه ثروت: هل تقترح شاهدا مناسبا ليكتب على قبرى؟.. لم ينتظرالإجابة. قال: اكتبوا: هو لم يمت بطلا ولكن مات كالفرسان بحثا عن بطولة.. ثم خاطب شقيقه: اكتبوا أحسن: «قد آن يا كيخوت للقلب الجريح، أن يستريح/ فاحفر هنا قبرا ونم/ وانقش على الصخرالأصم/ يا نابشا قبرى حنانك/ هاهنا قلب ينام/ لا فرق من عام ينام وألف عام/ هذى العظام حصاد أيامى/ فرفقا بالعظام».
هكذا كانت دراما النهاية فى حياة مبدعنا الاستثنائى، حسبما يرويها طلال فيصل فى روايته «سرور»، مستعينا بشهادات خاصة لأطراف فى قلب مأساته، منها شهادة لشقيقه «سرور»، الذى «كتب ما شاء نجيب على قبره بعد يومين من وفاته» يوم 24 أكتوبر «مثل هذا اليوم 1978».
ولد نجيب فى «إخطاب - دقهلية عام 1932»، وكان «عاصفة فى سماء الثقافة المصرية بوجوده وإبداعه»، حسبما يرى أحمد الخميسى فى مقاله «نجيب سرور - ذكرى الرحيل».. وكان «فنان لم يدخر ضوءه فاحترق سريعا كشهاب مرق فى سمائنا، لكنه ترك أثرا ساطعا»، وفقا لرأى صديقه القريب الكاتب والمترجم أبو بكر يوسف فى مقاله «نجيب سرور- مأساة العقل»، ويصفه: «وسيم، حاجباه معقودان بتقطيعة طبيعية، عيناه ضيقتان، شديدتا الذكاء والمكر، تشعان بالمرح والثقة بالنفس.. ثاقب النظرة، معقد لكنه فى غاية الغنى والعمق، منطلق إلى أقصى حد، مرح لا يكف عن إلقاء النكات، كنز لا يفنى من المعرفة».
«هو الابن الذى رأى فيه والده منذ صغره أنه سيحقق حلمه فى الإبداع والكتابة»، بتأكيد شقيقه ثروت، هو النابغ المبعوث من الحكومة للدراسة بموسكو عام 1959، لكنه وحسب «يوسف»: «جنح للتطرف، فلجأ لتشكيل مجموعة من «الديمقراطيين المصريين»، لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للحكم فى مصر وتقرر فصله»، لكنه ذهب إلى المجر بدعوة من لاجئ سياسى مصرى، وعمل فى القسم العربى بإذاعة بودابست، ثم عاد إلى مصر عام 1964.
وفقا للدكتور حازم خيرى فى مقدمته وتحقيقه لكتاب نجيب: «تحت عباءة أبى العلاء»: «فور عودته دخل رأسا فى قلب الأحداث، وبشكل عاصف، ومتدفق ومتعدد المجالات: فى الإخراج المسرحى والتمثيل وكتابة الأغانى، وكتابة الشعر الحديث الذى يتميز بتركيبه الدرامى- على الأخص ديوانه الشيق «لزوم مايلزم»، وكتابة المسرح الشعرى مجال نشاطه الإبداعى الأساسى فى هذه المرحلة.. جاء حاملا للمسرح الشعرى نقلة إلى مرحلة جديدة مختلفة، وكان عمله التمهيدى لهذه النقلة الرائعة ملحمته الشعرية الشعبية «ياسين وبهية».. وفى المعهد العالى للفنون المسرحية حيث كان أستاذا لمادتى التمثيل والإخراج، كان يقول ما يريد كما يريد، ويلقى دروسه فى المسرح وتاريخه من وجهة نظره العلمية الثورية، لهذا طرد من المعهد».
كان هذا الطرد، مقدمة لسنوات أكثر ألما فى حياته، والشاهد عليها، دخوله مستشفى العباسية للأمراض النفسية، ووفقا لحجازى فى روز اليوسف: «يشاهد الآن فى بعض شوارع القاهرة ومحلاتها العامة وهو فى حال يرثى لها، رث الثياب، متدهور الصحة، مشوش التفكير»، ويتذكر عبده جيبر: «كنت أجلس على مقهى ريش عصرا، وجاء أمل دنقل وصادف أنه على الرصيف المقابل، وكان واقف يحيى الطاهر عبد الله، فصرخ عليه «دنقل»: «روح شوف نجيب بيهبب إيه فى التحرير، وبالفعل جريت مع يحيى نشوف نجيب فرأيناه يقوم بأداء عرض مسرحى كامل، ممسكا بيد ابنه الصغير الأشقر الجميل فريد، وينادى:”ألاؤنا ألا ترى، مين يشترى الورد مني».. «الدستور-1 يونيو- 2018- القاهرة».
توفى، وبقيت قصته التى يرفض فيها البعض اعتباره «مريض نفسى»، ويرون أنه ضحية «القهر الأمنى» فقط، غير أن «يوسف» طرح على نفسه سؤالا: ما السبب فى الأزمة التى لازمته طوال حياته القصيرة، وتسببت فى رحيله المبكر؟.. يجيب: «فى البداية ظننته الاضطهاد.. لكن نجيب عاد إلى مصر فلم يوضع فى السجن، لم يتعرض للملاحقة اللهم إلا لمضايقات الأجهزة المعروفة، وكنت أظنه الظلم وحرمانه من فرصة تحقيق مواهبه، ولكنه نشر دواوينه ومسرحياته، ومثل على المسرح وفى التليفزيون، وأخرج للمسرح وأخرجت له مسرحياته، وربما لم ينل كل ما كان يريد، لكنه لم يحرم تماما، بل وعين فى وظيفة مخرج فى مسرح من مسارح الدولة.. ثمة تفسير منطقى واحد لهذه الأزمة لا أجد غيره..إنه الصراع فى نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض، والمثال المستحيل..إنه مأساة العقل، الذى يحفر كالمثقاب فى طبقات الزيف والأكاذيب ليصل إلى الحقيقة، ولكنه للأسف يواصل الحفر حتى يخرج إلى الجانب الآخر، محدثا ثغرة فى السد، تتسع مع الزمن، لتندفع منها المياه المخزونة مدمرة كل شئ».
ويرى أحمد الخميسى: «بدءا من 1970 أخذ نجيب يغرق مأساته يوميا فى الخمر، مستنفدا كل طاقته فى اتهام العالم والبشر بكل شىء، وكنت ترى أمامك التناقض المدمر حين يكون الشعر أقوى من الشاعر، والخيل أشد من الفارس.. تكالبت عليه حساسيته ومخاوفه وهواجسه فحاصرته..كان افتقاده للإيمان بأى شىء بناء ومبشر يلطم موهبته ويخلخلها من جذورها، وهكذا برز بنظرته العدمية وتشاؤمه ويأسه ليصبح «بطلا من هذا الزمان» يحمل بين جوانحه ثورة بلا أمل، ومسيرة بلا طريق».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة