غادر الزعيم الجزائرى أحمد بن بيلا القاهرة متوجها إلى ليبيا.. كان ورفاقه من قيادات الثورة الجزائرية يعدون العدة كى يطلق جيش التحرير الجزائرى شرارة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسى، واجتمع لهذا الغرض مع فتحى الديب مسؤول الشؤون العربية، برئاسة الجمهورية، والمنسق بين قادة الثورة وجمال عبدالناصر.
يذكر «الديب» فى كتابه «عبدالناصر وثورة الجزائر»: «عاد بن بيلا يوم 22 أكتوبر 1954 ليبلغنا أنه تقرر وبموافقة كافة قادة الكفاح الجزائرى أن تبدأ ساعة تفجير الكفاح المسلح فى الواحدة صباح 30 أكتوبر 1954، وغادر القاهرة ليواصل مهمته بليبيا حسب الاتفاق بعد أن زودته بمبلغ خمسة آلاف جنيه لشراء كميات الأسلحة والذخيرة المتوفرة من السوق السوداء الليبية، لمباشرة عملية التهريب فورا، لحين تزويدهم بالكميات اللازمة من مخازن الجيش المصرى، وقمت على الفور بإبلاغ زكريا محيى الدين، رئيس المخابرات، والرئيس جمال عبدالناصر بالموعد المحدد».
بوصف «الديب»: «مرت الأيام طويلة والتفكير فى أولى مراحل خطتنا التحررية يأخذ كل مشاعرى ما بين القلق والأمل».. فى هذه الأثناء كانت الخطة الإعلامية لمساندة الثورة يتم وضعها فى البرنامج الإذاعى «صوت العرب» بقيادة المذيع الأشهر أحمد سعيد.. كانت مدة بث البرنامج وقتئذ ساعتين يوميا لمساندة حركات التحرر العربية ضد الاستعمار.
يتذكر «سعيد» فى مذكراته غير المنشورة - هى بحوزتى - قصة مثيرة.. يقول فى فصل بعنوان «الجزائر.. بلد المليون شهيد ومخاض ثورة فى مكاتب صوت العرب»، إن «فتحى الديب» أخذ يفك مع «محمد خيضر» و«أحمد بن بيلا» و«حسين آية أحمد»، طلاسم مشروع بيان إعلان الثورة المكتوب باللغة الفرنسية بخط يد الدينامو محمد بوضياف.
يؤكد سعيد: «لم تكن المشكلة فى وضوح الحروف، وإنما كانت فى الصياغة الجامدة للجمل والعبارات التى جعلت البيان فى ترجمته الأولى أقرب إلى الأوامر العسكرية فى موقع الفعل والفاعل والمفعول به.. مما جعل «الديب» يلجأ يومها إلى تجزئة هذه الترجمة الأولى، وكتابة كل جزء على ورقة منفصلة بلغ عددها سبعة عشر ورقة، ثم سؤال مترجمين متخصصين على أفضل ترجمة لجملها المتناثرة، وجمع كل ترجمة على حدة، وإجراء مقارنات عدة بين ترجمة وأخرى، واختيار فقرة من هذه وفقرة من تلك، حتى راقت للجميع وخاصة «خيضر» وحسين آية أحمد، فعرضها الديب على الدكتور إبراهيم سلامة أستاذ آداب متخصص فى اللغتين الفرنسية والعربية، فأقرهما بعد أن أدخل تعديلين لفظيين فقط، رآهما أقرب إلى التعبير عن مضمون الصياغة الفرنسية بخط محمد بوضياف».
يؤكد سعيد: «تم وباليد كتابة أربع نسخ فقط، تسلم الجانب الجزائرى نسختين منها، مع الأصل الفرنسى بينما أخد «الديب» الثالثة، وتركت الرابعة أمانة فى رقبتى لأذيعها بنفسى فور وصول الأنباء بالهجمات التى تم الاتفاق على تنفيذها بعد خمسة أيام فى العديد من أنحاء البلاد، ضد المراكز والمنشآت الفرنسية المتباعدة وبعض محطات الكهرباء والاتصالات، عند تمام الساعة الواحدة فجر يوم 30 أكتوبر «مثل هذا اليوم» 1954.
يوضح الديب حالته فى الليلة المرتقبة: «أنتابنى شعور غريب ملأه الأمل فى أن تتم العملية كما خطط لها، وفى موعدها المحدد، وسهرت الليل بأكمله أحصى الساعات والدقائق بل والثوانى شاغلا نفسى، بمتابعة محطات الإذاعة العالمية منذ الساعات الأولى ليوم 30 أكتوبر، ومضت الساعات، وأشرقت شمس الصباح لينتابنى شعور بالقلق مشوبا بخيبة الأمل.. توجهت إلى مكتبى مبكرا لأجد زميلى عزت سليمان يحس نفس شعورى، وبدأت أناقشه فى الاحتمالات التى ترتب عليها تأخير تنفيذ العملية فى موعدها، وكان هو الآخر فى حيرة من الأمر، وانتهينا إلى إمهالهم بعض الوقت منتظرين لأى أخبار تصلنا من بن بيلا الموجود فى ليبيا، ومضى نهار 30 أكتوبر وتلاه ليله، ثم بدأ صباح يوم 31 أكتوبر ووصلتنا الرسالة».
يؤكد «الديب»، أن بن بيلا أخبره فى رسالته بتأجيل الموعد لظروف طارئة إلى ليلة 31 أكتوبر /1 نوفمبر وفى نفس الساعة «الواحدة قبل الفجر»، ويذكر أن هذه الرسالة بعثت الأمل إليه من جديد، وأمضى الليل ساهرا حتى الصباح يتابع كافة الإذاعات العالمية، لكن القدر شاء أن يواجه نفس مصير ليلة انتظاره السابقة، ويكشف: «فوجئت فى حوالى الساعة 12 ظهرا بالرئيس جمال عبدالناصر يتصل بى تليفونيا مستفسرا عما تم، وبأسلوبه المعتاد فى طرح الاستفسار مشوبا ببعض الشك فى احتمال جدية وإتمام العملية كما رسمت، مشيرا إلى أننى تفاءلت أكثر من اللازم، وحاولت إقناعه ومن خلال اقتناعى الشخصى باستمرار ثقتى فى احتمالات النجاح معللا التأخير باحتمال تأجيل الموعد من جديد». كان «صوت العرب» يعد العدة، وبيان إعلان الثورة جاهز لدى «أحمد سعيد»، لكن الديب اتصل به طالبا التأجيل، وطالبه بالصبر والتروى فى انتظار ما ستأتى به الأخبار.. وجاءت الأخبار يوم 1 نوفمبر 1954.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة