كان الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، بين يدى طبيبه الأمريكى فى مستشفى «كليفلاند» الأمريكية، وفيما كان الطبيب يتحدث عن طبيعة الأورام السرطانية التى أصيب بها الكاتب الكبير،رد هيكل:«أنا رجل محب لهذه الحياة ومغرم بها،وفى الوقت نفسه متصالح ومتفاهم مع ما بعدها،فهذه الحياة أعطتنى أحلى وأغلى ما عندها،ومن الحق أن أدرك أن بعدها موصول بها، اتصال النهار مع الليل»، كان ذلك فى شهر نوفمبر عام 1999 وفقا لهيكل فى كتابه«استئذان فى الانصراف»عن«دار الشروق-القاهرة».
كان حديث «هيكل» عن الحياة اختصارا لرحلته التى بدأت بمولده يوم 23 سبتمبر 1923، واستمرت بعد إصابته بمرض السرطان عام 1999 إلى عام 2016، حيث توفى فى يوم 17 فبراير «مثل هذا اليوم» بعد رحلة مرض قصيرة،تنبأ فيها بموته حين قال لأبنائه: «الرحلة انتهت، لا تعاندوا القدر»، «جريدة الشروق-يومية- 18 فبراير 2016»، وكان الموت ختاما لحياة رجل أحب أن تبقى صفة «الجورنالجى» مقترنة به مهنيا حتى آخر العمر.
بدأ تجربته حسب قوله فى «استئذان فى الانصراف»: «يوم 8 فبراير 1942 حين اختاره أستاذه «سكوت واطس» مدير تحرير «الاجيبشيان جازيت» للتدريب العملى فى جمع مادة الأخبار، وكان «الاجيبشيان» وقتها بسبب ظروف الحرب وزحام الجيوش، أوسع الجرائد فى مصر انتشارا رغم لغتها الإنجليزية.
التحق بالعمل فى مجلة «آخر ساعة» مع محمد التابعى عام 1945،ثم انتقل إلى أخبار اليوم 1946، فمراسل متجول لأخبار اليوم فى تغطية حروب الشرق الأوسط والحروب الأهلية فى إيران والبلقان، وفى عام 1951 أصبح رئيسا لتحرير «آخر ساعة» وفى مايو 1952 أضيف إلى عهدته مهمة إدارة تحرير أخبار اليوم،ثم انتقل رئيسا لتحرير الأهرام عام 1956 ليحولها من جريدة خاسرة إلى واحدة من كبريات الصحف العالمية.
اقترب من جمال عبدالناصر بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، فاستسهل خصومه التشكيك فى كفاءته المهنية بإرجاع أى تفوق له إلى هذه العلاقة، وزعموا أنه كان «الصحفى الأوحد»، غير أنه رد على كل ذلك بتعظيم تفوقه بعد خروجه من الأهرام عام 1975 على أثر خلافه مع الرئيس السادات، ويوضح ذلك: «خلافى مع الرئيس السادات، وما أعقبه تصادف بالتوافق وبالضبط مع مناخ أصبح الشرق الأوسط فيه مناط اهتمام العالم وبؤرة النار فى قلبه، وكذلك التفتت الدنيا ناحية المنطقة تريد أن تعرف وتتابع وتتقصى، وتستوعب، وراحت دور النشر فى العواصم الكبرى، لندن وباريس ونيويورك وطوكيو وبرلين» وغيرها، تتصل بصحفى ظنت أنه يقدر على عرض الشرق الأوسط أمام قراء سمعوا عنه واطلعوا على أعماله،وينتظرون منه أن يكتب لهم من الداخل وليس من الخارج،وبالعمق وليس بالوصف».
هكذا بدأت مرحلة «النشر الدولى» لهيكل الذى أسفر عن مؤلفات مهمة أبرزها «ملفات السويس 1956» و«سنوات الغليان 1967» و«سنوات الانفجار 1967» و«السلاح والسياسية-أكتوبر 1937»، وكانت الوثيقة التاريخية هى اعتماده الأكبر فى هذه الكتب وغيرها من مؤلفاته،ومما يرويه فى هذا الأمر وفقا لمقدمته فى «ملفات السويس»: «أعترف بأننى مدين بالكثير مما لدى من وثائق التاريخ المصرى المعاصر إلى «جمال عبدالناصر»، فقد أذن لى أن أطلع على أوراقه، وسمح لى فى كثير من الظروف بصور منها،كان قد لاحظ مبكرا غرامى بالحرص على كل ورقة تضعها الظروف أمامى،وسألنى مرة وكنا أيام معركة السويس: «ماذا ستفعل بكل هذه الأوراق التى تحرص على جمعها؟..قلت له: «ربما فكرنا ذات يوم بعد أن ينتهى ذلك كله أن نجلس معا لكتابة قصة هذا العصر كما عايشناه»، وكان رده: «سوف تفعل ذلك وحدك إن أردت، أما أنا فلا أظننى سأكون هناك عندما ينتهى ذلك كله»، واستغربت قوله، خصوصا حين أضاف بهدوء غريب: «من يعيش مثل حياتى يحرق الشمعة من الناحيتين».
مات عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970،وعمره 52 عاما فقط،فى حين كان عمر هيكل 47 عاما،ولوكان تفرد هيكل مستمدا من بقائه إلى جوار«عبد الناصر»كرئيس،فإن موت الرئيس «كان يعنى بالتبعية موت الصحفى»،غير أن تألقه زاد بعد ذلك بدرجة جعلت مسؤولا بريطانيا هو «أنتونى ناتنج» وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية فى وزارتى «انتونى إيدن» خمسينيات القرن الماضى،يقول على إذاعة بى.بى.سى.العربية-14 سبتمبر 1978: «عندما كان هيكل قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه،وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل بما يفكر فيه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة