تأتى الذكرى الثانية على رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل "23 سبتمبر 1923 – 17 فبراير 2016"، لنجد أنفسنا مدفوعين بشغف لإعادة فتح أبواب كانت مغلقة أمام أعيننا، فتحها لنا للننظر من خلالها لغيرنا ولأنفسنا فى المقام الأول.
ومن بين هذه النوافذ كتابه "أحاديث فى آسيا.. موعد مع الشمس"، الصادر فى طبعته الثانية عن دار الشروق للنشر فى القاهرة عام 2010، ضمن سلسلة "عمر من الكتب"، وفى هذا الكتاب يستهل الأستاذ مقدمته بالإشارة إلى الخلافات التى دارت بينه وبين الرئيس الراحل أنور السادات، لقيامها بنشر مقال يحمل عنوان "كيسنجر وأنا مجموعة أوراق"، وكان فى تقدير "السادات" أن المقال يعطل خططًا سياسية طلب منه الرئيس الراحل المشاركة فيها، إلا أنه اعتذر، وضايقه الاعتذار، وما ضايقه أكثر هو قيام الأستاذ بالكتابة فى ذات الموضوع.
ويوضح "هيكل" أنه بعد نشر المقال فوجئ بنائب رئيس الوزراء للإعلام حينذاك الدكتور محمد عبد القادر حاتم، يبلغه بأن مقالاته لا بد أن تخضع للرقابة، فكتب له الأستاذ أن هذا أمر مخالف لعهد متفق عليه منذ أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حتى من قبله، وبناءً على ذلك، فإن مقالاته لن تخضع للرقابة.
كما يشير الأستاذ إلى أنه أبلغ نائب رئيس الوزراء للإعلام بأنه سوف يمتنع عن الكتابة إلى حين إعادة النظر فى القرار، مفضلاً عدم مراجعة السادات، رغبة فى الصدام، وإيمانا بأن هناك معركة مسلحة قادمة على الطريق فى 1973، وأن من يستطيع أداء دور فى الخدمة العامة فى ظروفها عليه أن يكون متواجدًا حيث يكون نافعًا.
من هنا، قرر الأستاذ هيكل تنظيم رحيلة إلى آسيا، استغرقت شهرًا، اصطحب فيها عددًا من الزملاء فى مؤسسة الأهرام آنذاك، والتقى خلال الرحلة بكل قيادات آسيا السياسيين والعسكريين، وبعد عودته من ذلك الموعد مع الشمس، بدأ كتابة أحاديث فى آسيا.
"أنت ذاهب إلى الصين.. سوف ترى مجتمع النمل.. فى الغالب سوف تنزل فى فندق الشعوب، وإذا حدث ذلك، فإنى أرجوك أن تستيقظ مبكرًا ذات يوم، وأن تنظر من نافذة غرفتك إلى الشارع تحتك، وسوف تجد على الناحيتين فى الشارع الواسع منظرًا لن يبرح ذاكرتك".. هكذا يتذكر الأستاذ ما قاله سياسى عربى له قبل سفره.
مشاهدات عديدة، يتذكرها الأستاذ فى كتابه، منها ما يتعلق بلحظتها الآنية، فتكشف لنا كواليس ما كان يدور، ومنها ما يستشرف المستقبل الذى نعيشه الآن، فنتعلم من تجارب الآخرين، ومن بين هذه الأحاديث المثيرة الشيقة التى تجعلك تسير وتجلس وترى بعين الأستاذ، ما يرويه حول نظرته العامة عن الصين.
ومن أبرز ما لفت نظر الأستاذ فى الصين هو "قوة الاندفاع"، ويقول "هيكل": هناك قوة دافعة تحرك الصين بغير حدود، وهذه القوة مزيج من عناصر مختلفة.. هذا الشعب يتحرك إلى هدف. ولا أعتقد، مما رأيت، أن هنالك أحدًا يستطيع أن يحول دونه ودون بلوغ هدفه. وعندما سئلت عن أحوال الناس فى الصين، قلت بأمانة: "الكل يأكل بما فيه الكفاية.. الكل يلبس بما فيه الدفء والكرامة أيضًا.. والكل يعمل بغير انقطاع.. حتى العجائز فى المزارع الجماعية يكلفونهم بالسهر فى الليل مع الأطفال يروون لهم قصة ما كان فى الصين من جوع وفوضى وعذاب وذل، حتى لا تضيع من ذاكرة الأجيال حكاية ما كان، وليستطيعوا تقدير ما هو كائن".
وفى طوافى كله بالصين، فلقد أحسست بأن هناك ثلاثة أسباب محددة تكمن وراء المعجزة:
الأول: أن كل إنسان يعمل، ولا يمكن أن يكون هناك شىء آخر وراء إنتاج بحجم إنتاج اليابان بوقود يماثل حجم استهلاك مصر إلا العمل الإنسانى، والعمل الإنسانى وحده. (اليابان تستهلك سنويًا – آنذاك – 240 مليون طن من البترول، أما الصين فتستهلك سنويًا 25 مليون طن وهو نفسه حجم استهلاك مصر فى ذلك الوقت).
الثانى: أنه ليس هناك ما كان يسميه الدكتور محمود فوزى، عندما كان رئيسًا للوزراء "فاقدًا أو عادمًا أو ضائعًا" فى أى شىء.
وأتذكر أن "وو لين شى" المسئول عن تحرير جريدة "الشعب"، وهى كبرى الصحف الصينية، دعانى إلى عشاء ذات ليلة فى مطعم "بط بكين" الشهير.
كان العشاء أطباق من بطة واحدة. خمس قطع مختارة باردة من البطة فى أول طبق. كبد البطة مقليًا فى طبق ثان. أضلاع البطة بالصلصة فى طبق ثالث. قلب البطة فى قطع صغيرة محمرة فى طبق رابع. لسان البطة وأمعاؤها والبنكرياس، مطبوخة مع الخضر فى طبق خامس. جسم البطة نفسه أخيرًا، والطبق الرئيسى، مشويًا فى طبق سادس. عظام البطة مسلوقة، فى طبق حساء فى النهاية، وهو الطبق السابع، وأتذكر أننى قلت لـ"وو لين شى": لم يبق من البطة غير ريشها، وأرجو ألا نأكله؟.
وقال "وو لين شى" بجد: "لا.. إن المطعم يبيع ريش البط لأغراض صناعية".
الثالث: هو التنظيم الدقيق، وهو شىء محسوس إلى "أطراف الأصابع" فى كل بقعة على أرض الصين. ونقطة التنظيم تستحق نقاش أطول.
أما عن سر التنظيم الدقيق فى حياة الصين، فيشير الأستاذ إلى أن تعرض إلى هذا السؤال كثيرًا وبإلحاح، وكان آخر من وجهه إليه هو الرئيس الراحل معمر القذافى، حينما كان جالسًا يستمع إلى "مشاهدات وملاحظات عائدين من آسيا"، فلخص رأيه فى خمس نقاط:
أولاً: إن روح التنظيم موجودة فى عقيدة الصين التاريخية الأولى وهى تعاليم "كونفوشيوس"، ولم يكن كتاب كونفوشيوس الشهير وهو "حوليات الربيع والخريف" - وقد أصبح فيما بعد كتابًا مقدسًا - إلا مجموعة من قواعد الأخلاق والسلوك، أرست بين ما أرست فى المجمتع الصينى أسسًا راسخة لاحترام المسئوليات على كل المستويات، حتى إن عددًا من الدارسين لشئون الصين، وبينهم "إدجار سنو" فى كتابه "الناحية الأخرى من النهر"، يعتقدون أن الكونفوشية أعطت للصين أقوى الأجهزة الإدارية فى التاريخ، وأكثرها استمرارًا واستقرارًا، ولقد ساعد على ذلك أن المجتمع الصينى بالطبيعة مجتمع نهر، وإذن فهو يحتاج إلى حكومة مركزية قوية.
ثانيًا: إن الحضارة الصينية لم تنقطع طوال التاريخ، ولم تنكسر ولم تدخلها الشوائب. وفى حين أن الحضارة المصرية مثلا، انكسرت وانقرضت بعد عهد الأسرات، كما أن الحضارة الإغريقية نامت على طول المسافة بين انهيار الإمبراطوريات الرومانية وعصر النهضة الأوروبية الحديث، فإن الحضارة الصينية دون غيرها من الحضارات الأولى، واصلت استمرارها وازدهارها، وبرغم عصور من الانتكاس عاشتها.
ثالثًا: إن الصينى كان، ولا يزال دائمًا، يعتقد أن الصين هى قلب الكون، وربما كنا نحن فى الشرق الأوسط - الذى نعتبره وسط العالم - نظن أن الصين فى طرف قصى من الدنيا، لكن النظرة إلى خريطة العالم مرهونة دائمًا بالمكان الذى ننظر منه.
وقد نلاحظ أن اسم الصين فى اللغة الصينية هو "شونج كو" والترجمة الحرفية هى "الملكوت المركزى"، أو "الملكوت الأوسط". ومن هنا، فإن الصين هى شعب الصين، بل إن الأقليات الصينية خارج الصين، وحتى فى الولايات المتحدة، لا تعتبر نفسها مهاجرة خارج الصين، وإنما تعتبر نفسها فى مهمة خارج الصين.
رابعًا: إن الصين لم تتعرض للغزو الخارجى فى أى فترة من فترات تاريخها، كما أنها لم تذهب غازية إلى أى مكان، وكانت حروبها كلها حروبًا دفاعية. وحتى فى عصر التدخل الأوروبى فى الشرق الأقصى، وبعد حرب الآفيون الشهيرة، فإن الصين لم تصبح مستعمرة بالمعنى التقليدى، وإنما تمركزت قوى التدخل الأجنبى على شواطئها، وعلى أطرافها البعيدة، وبقى "الملكوت الأوسط" سليمًا لا يمس.
خامسًا: إن الكونفوشية لم تأت إلى الصين بأى أساطير غيبية يمكنها أن تمزق المجتمع الصينى إلى طوائف وشيع، أو تغرقه فى خزعبلات مظلمة ومسكونة، وكان كونفوشيوس، ومن قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة يقول: "احترموا الأرواح.. لكن عليكم أن تحرصوا على إبقاء مسافة بينها وبين عقولكم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة