خرج عدد من الجنود لجمع الحطب بمنطقة «الحويان» فى تعز باليمن، واختلفوا مع الأهالى، ويبدو أنهم اعتدوا عليهم، فهدد هؤلاء بالشكوى إلى الإمام أحمد حميد الدين، فخاف الجنود وعادوا إلى ثكنهم، وطالبوا قائدهم المقدم «أحمد الثلايا» بضرورة الثورة، وتحت هذه الحماسة حاصر الجنود قصر الإمام أحمد، وطالبوه بالتنازل لأخيه سيف الإسلام، وتحت هذا الضغط تظاهر بالتنازل، وكتب: «من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى يتولى الأخ سيف الإسلام عبدالله تصريف أمور البلاد، وتظاهر بالمرض، وأنه فوض أمره إلى الله، وظن الجميع أن الأمور استقرت» «محسن العينى- خمسون عاما من الرمال المتحركة- قصتى مع بناء الدولة الحديثة فى اليمن» عن «دار الشروق- القاهرة».
وقعت هذه الانتفاضة فجأة يوم 2 إبريل «مثل هذا اليوم» عام 1955، بينما كانت القاهرة تشهد اجتماعات رؤساء الدول العربية، لاتخاذ الموقف المناسب فى مواجهة إقدام نورى السعيد على توقيع الاتفاق مع تركيا للانضمام إلى حلف بغداد الذى تقف وراءه بريطانيا وأمريكا، وكانت مصر تقاومه، حسبما يؤكد «فتحى الديب» فى كتابه «عبدالناصر وحركة التحرر اليمنى» عن «دار المستقبل العربى- القاهرة»، وكان شقيق الإمام أحمد، سيف الإسلام الحسن، ضمن المشاركين فى اجتماع القاهرة.
«كانت اليمن وقتئذ تعيش على حال لا يخطر على بال أحد»، وفقا لتأكيد محمود رياض، وزير خارجية مصر الأسبق، وكان ضمن الوفد المصرى الذى زارها برئاسة صلاح سالم عام 1954، ويقول فى الجزء الثانى من مذكراته: «الأمن القومى العربى بين الإنجاز والفشل» عن «دار المستقبل العربى- القاهرة»: «لم أكن أتصور أن هناك بقعة على الأرض مازالت تعيش فى مثل هذا التخلف الذى شاهدناه، فلم تكن هناك عملة نقدية، وإنما كان التعامل يتم عن طريق الريال الفضى، وعليه صورة إمبراطورة النمسا ماريا تريزا باعتباره قطعة من الفضة، لم تكن توجد فى مدنها بنوك أو مستشفيات أو مدارس، وكان التليفون الوحيد فى صنعاء موجودا لدى الإمام»، ويذكر محسن العينى، رئيس وزراء اليمن الأسبق: «كانت صنعاء مدينة صغيرة محاطة بالأسوار، تقفل أبوابها السبعة عند الغروب، ولا تفتح إلا بعد الفجر عند الشروق، وتعيش فى ظلام دامس، وحدها دار الشكر ودار السعادة حيث يعيش الإمام وأسرته، ودار الضيافة، تضاء بالكهرباء من مولد صغير».
فى ظل هذه الأوضاع البائسة جرت «انتفاضة الثلايا»، ويكشف «فتحى الديب» أسرار علاقة مصر بها من موقع مسؤوليته فى المخابرات المصرية ورئاسة الجمهورية عن «حركات التحرر العربية»، مشيرا إلى سفره باسم مستعار إلى اليمن فى أوائل أكتوبر 1953 بالتنسيق مع العناصر الوطنية اليمنية المقيمة فى القاهرة، وذلك فى إطار تنفيذ خطة «مباشرة مصر لدورها النضالى على ساحة الوطن العربى»، وهى الخطة التى وضعها «الديب» حسب تأكيده وبتكليف من عبدالناصر، بعد انتقاله إلى جهاز المخابرات فور تأسيسه عام 1953 برئاسة زكريا محيى الدين، واعتمدت على تعاون مصر مع حركات التحرر العربية.
وضع الديب خطته، وناقشها مع عبدالناصر فى ساعتين وفقا لتأكيده، وكان من وسائل تنفيذها، الاتصال بالقيادات السياسية اللاجئة فى القاهرة، وعملاً بذلك توثقت علاقته بممثل مجموعة «اليمنيين الأحرار» القاضى محمد محمود الزبيرى اللاجئ إلى مصر منذ انقلاب 1948 الذى قتل خلاله الإمام يحيى حميد الدين.
سافر «الديب» باسم «محمد مبروك»، وبوظيفة «مفتش بوزارة الخارجية»، وهيأ له «الزبيرى» الأوضاع هناك ليجرى مسحا ميدانيا للأوضاع، وقابل «الثلايا» لأول مرة ليبدأ التعاون النضالى مع القاهرة، وفى الأسبوع الأول من يوليو 1954 زار وفد مصرى اليمن برئاسة الصاغ صلاح سالم، وأسفرت هذه الزيارة عن الاستجابة لمطلب الإمام أحمد بتزويده ببعثة عسكرية برئاسة الصاغ أحمد كمال أبوالفتوح، ويعاونه اليوزباشى محمود عبدالسلام، وبعثة من الشرطة برئاسة الصاغ «عبدالله حامد من كلية الشرطة يعاونه اليوزباشى مصطفى الهمشرى»، ويؤكد «الديب» أنه أطلع أبوالفتوح قبل سفره على ما تم الاتفاق عليه مع «الثلايا»، وطلب منه مداومة الاتصال به فى سرية، وبعيدا عن أنظار وعيون جواسيس الإمام، كما تم تزويده بشفرة خاصة للتخاطب السرى.
كان الاتفاق بين «الثلايا» و«الديب» هو تهيئة الأوضاع فى اليمن للتغيير، وأعد «الثلايا» خطة تفصيلية لذلك، ومن خطواتها «تفتيت وحدة أسرة حميد الدين باستقطاب شقيق الإمام أحمد عبدالله»، وحسب «الديب»: «أكدنا له ولرفاقه بالداخل استعدادنا للاستجابة لكل مطالبهم بمجرد إقدامهم على أولى خطوات التنفيذ، طالبين منه أهمية وضعنا فى الصورة المستمرة لتطور الأحداث، وما يتخذونه من خطوات على طريق الإعداد لعملهم النضالى مع ضرورة إخطارنا بموعد وتوقيت التنفيذ قبل إقدامهم عليه بثمان وأربعين ساعة على الأقل»، لكن وقعت انتفاضة «الثلايا» فجأة وبصورة لم يكن يتوقعها أحد، حسب تأكيد «الديب»، فكيف تم التعامل معها؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة