يستيقظ من نومه، يتناول هاتفه المحمول ليتأكد أنها السابعة صباحا كما تعود أن يصحو، يبدأ بتفقد أولاده وزوجته، يفتح نافذة منزله، الضيق والتى تطل على الحقول، حيث يسكن "محمود الدولى"، 36 عاما، دبلوم صنايع، بإحدى القرى التابعة لمدينة المنصورة، بمحافظة الدقهلية، ويبدأ فى ارتداء ملابسه ليبدأ مشواره اليومى.
"ارحموا عزيز قوم ذل".. أكثر المقولات التى تناسب محمود، والذى كان "أسطى كبير"- على حد وصفه، ولكن النيران اندلعت فى ورشة الكاوتشوك الخاصة به فى مسقط رأسه بمحافظة الشرقية والتى التهمت كل معداته وأدوات عمله، وإطارات الكاوتشوك التى تتكلف آلاف الجنيهات والتى كان يتاجر ويعمل فيها، قبل اندلاع النار فى عقار كان يملك فيه ورشة، بسبب خصومة ثأر مع مالك العقار.
يقول الدولى: "فى يوم وليلة تبدل الحال، وخسرت كل شىء خسرت أكثر من 200 ألف جنيه بعود كبريت لا يساوى قرش واحد، بعد ما النار حرقت البيت مقر الورشة التى كنت أملكها، والبضاعة اللى كانت فى المحل كانت تقدر بأكثر من 100 ألف جنية، بالإضافة للكمبروسر وجهاز ضبط الزوايا والترصيص بالكمبيوتر كان بـ 70 ألف جنيه كله تهشم وفجأة وجدت نفسى فى الشارع أنا وأولادى وزوجتى لا نملك شيئا".
ويضيف "الدولى" لم أنم طوال 3 أيام بعد الحريق، لا عمل، لا ورشة، الصبيان العاملون فى المحل والورشة سرحتهم وجلست وحيدا وسط الفحم والأنقاض حتى قررت أن أقوم بجمع أثاث بيتى وآخد زوجتى وأولادى لمكان آخر، ابدأ فيه من جديد، لن أبكى على الماضى لأن البكاء لن ينفق على أولادى، وبالفعل أجرت سيارة نقل من موقف التراحيل وأثناء ذهابى للشقة مع سائق السيارة سألنى النقلة عن وجهتى فسكت لإنى لم أكن أعلم ثم لاحظت أن هيئة ولهجة السائق مختلفة فسألته من أين قال انا من المنصورة قلت له سنذهب المنصورة".
ويتابع: "لا استطيع أن أنسى نظرات الاندهاش فى عين زوجتى وأنا أقول لها اجمعى أثاثنا لأننا سنذهب المنصورة"ـ يتوقف عن الكلام ويبتسم ساخراـ ويكمل: "فى خلال ساعتين كانت كل حاجة على السيارة وفى الطريق سألت عن المنصورة وأسعارها والإيجار فيها عرفت أنه من قرية اسمها بدين ومتزوج ويعمل فى الشرقية وطبعا مدح فى بلده وفى قريته قلت له يعنى نستطيع أن نسكن هناك أنا لا أملك مالا، وعلى الفور قام السائق بالإتصال بأحد أقاربه يخبره بأن يبحث له شقة بالإيجار فى غضون 3 ساعات وبالفعل بعد ساعة اتصل قريبه وأخبره أن الشقة جاهزة وما أن وصلنا حتى قمنا بحمل عزالنا ووضعه فى الشقة حتى لم نشاهدها ولم نعاينها ليس أمامنا بدائل أخرى وصلنا فى الساعة السابعة مساء فرغنا من ترتيب اشيائنا ثم نمت لأول مرة منذ 4 أيام فى بلد غريب وبيت غريب ولا أعرف لماذا أتيت هنا ولا ماذا سأفعل غدا خاصة وأنه لم يتبقى معى سوى ألف جنية بعد بدفع الإيجار الجديد والتأمين".
استيقظ الدولى متأملا فى سقف الحجرة لأول مرة، وبدأ يتجول فى القرية لأول مرة ترمقه نظرات أهالى القرية، من عساه يكون هذا الغريب الذى أصبح بيننا فجأة، تتفحص عينه سكانها وجيرانه الجدد، يستعطف الأمان لنفسه ولزوجه فى نظراته الحائرة فى وجوههم وبينما يهيم على وجهه فى هذا المكان الجديد إذا به يسمع صوتا لطالما كان فاتحة سعد عليه، صوت مكبس الهواء الخاص بتزويد إطارات الكاوتشوك “المنفاخ”، فإذا به أمام ورشة لإصلاح ولحام الإطارات يستأذن صاحب الورشة ليسأله عن عمل ويخبره عن نفسه وقصته فيرسله صاحب الورشة إلى ورشة أخرى فى المنصورة ليبدأ عمله بتلك المدينة الواسعة المزدحمة ليس كصاحب ورشة ومحل بيع إنما كعامل عادى ومستجد داخل مجتمع جديد وبلد غريب لتبدأ حياة جديدة عساه ينسى ما أحدثه الزمان أو يبدأ فى تغيير لما أتلفته نيران لم يكن يستحق من لهيبها شيئا.
يقول الدولى: "بدأت عمل فى المنصورة عند صاحب محل فهمنى وقدرنى، اشتغلت بيومية 100جنيه وترك لى المحل لى أنا وحدى، أول يوم اشتريت أكل وذهبت زوجتى لم تصدق أنى حصلت على عمل بهذه السرعة وفى خلال شهر كامل وتمكنت من توفير 2000جنية وبعدها اتصل بى صديق لى وأقرضنى 4 آلاف وفجأة أصبح معايا 6آلاف جنية استلفت من صاحب الورشة وأكملتهم 10 آلاف وفتحت لنفسى ورشة فى سندوب".
ويضيف راسما بسمة راحة على وجهه، فقد صادفته فى تلك اللحظة ثقب الإطار الذى يبحث عنه وأيضا أن يتذكر اللحظة الأولى وهو يعاين فيها المحل الذى سيستأجره ليكون ورشته ويقول: "لأول مرة اختار حاجة فى المنصورة كانت هذا المحل عاينته وأجرته وصاحبه أكرمنى فيه وبدأت حياتى هنا واشتريت أدوات بسيطة وضيقت على نفسى حتى أسدد الدين وأكمل العدة الناقصة وبالفعل نجحت، سعيد إنى بعد 5أيام من الخسارة اشتغلت وسعيد إنى بعد شهر واحد رجعت أسطى تانى، بعد ماكنت صنايعى بسيط فى محل غريب، وفخور إنى هرجع أمجاد زمان بعد سنتين بس من الخسارة لو كنت فضلت أبكى مكنتش هعمل حاجة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة