احتشد مطار العاصمة الكوبية هافانا بكبار رجال الدولة، يتقدمهم الرئيس الكوبى فيدل كاسترو، لتوديع أول بعثة رسمية أوفدتها الثورة الكوبية لزيارة مصر يوم 15 يونيو 1959.
كان تشى جيفارا، إحدى قيادات الثورة الكوبية، هو رئيس هذه البعثة، وكانت الزيارة بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة، وتعيين كاسترو لجيفارا فى الأول من يناير 1959 سفيرًا مطلق الصلاحيات، لشرح أهداف الثورة وخططها وتوجهاتها، حسبما يذكر عبدالحسين شعبان فى كتابه «كوبا الحلم الغامض» الصادر عن «دار الفارابى - بيروت».
استمرت زيارة جيفارا حتى يوم 30 يونيو 1959، أى أنها استمرت 15 يوما، ويؤكد محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبدالناصر والعالم»، أنها كانت أول اتصال بين مصر والثورة الكوبية، واستهدفت دراسة تجربة الإصلاح الزراعى فى مصر، وكانت أول مرة يلتقى فيها عبدالناصر وجيفارا، كان عبدالناصر يكبره بعشر سنوات «عبدالناصر مواليد 1918 وجيفارا 1928»، ويشير هيكل إلى أن عبدالناصر لم يولِ حركة كاسترو الثورية الكثير من الاهتمام، لأن الزعيم الكوبى كان يلقى كثيرًا من التأييد الأمريكى فى ذلك الحين.
غير أن عبدالحسين شعبان يؤكد: «انجذب جيفارا إلى الثورة المصرية، 23 يوليو 1952، وتأثر بمواقف عبدالناصر منذ أن كان مع صديقه فيدل كاسترو فى المكسيك، وكذلك صديقه راؤول كاسترو.. يومها نظم أبياتا سماها «نشيد النيل» عام 1956 إثر العدوان الثلاثى «إسرائيل، بريطانيا، فرنسا»، ويؤكد هيكل أنه فى لقائهما الأول روى تشى لعبدالناصر أنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب والنكسات، وهو يقود حرب العصابات فى قمم التلال الكوبية فى سنة 1956، كان يستمد كثيرًا من الشجاعة من الطريقة التى صمدت بها مصر أمام العدوان الثلاثى، وقال إن عبدالناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله».
ويرصد شعبان أكثر من دلالة لاختيار مصر لهذه الزيارة، منها «أن مصر هى مركز ملهم لأفريقيا ولحركاتها التحررية، فضلًا عن كونها جسر الوصل مع آسيا، وكانت القاهرة يومها تعج بالثوار الأفارقة والقيادات والزعامات المختلفة، وأن مصر هى قلب العروبة وأكبر بلد عربى، ولها إشعاع فكرى وسياسى وثقافى على العالم العربى كله، لاسيما الدور الريادى الوحدوى لجمال عبدالناصر، وارتفاع رصيده فى مواجهة الإمبريالية، وهى مصدر إلهام لحركات التحرر العربية».
استقبل عبدالناصر جيفارا والوفد المرافق له بعد وصوله القاهرة، وأقام له حفل عشاء فى قصر القبة، وفى يوم 29 يونيو «مثل هذا اليوم عام 1959» استقبله عبدالناصر فى قصر القبة، حسبما تؤكد هدى عبدالناصر فى الجزء الرابع من «جمال عبدالناصر - الأوراق الخاصة»، كما حضر مع عبدالناصر مناورات عسكرية مصرية فى البحر الأبيض المتوسط، وفقًا لتأكيد شعبان، مضيفًا: «لم يكن جيفارا يحب البروتوكول الدبلوماسى أو السجادة الحمراء التى يفرشها له مستقبلوه المصريون، وحاول عدة مرات تضليل مرافقيه ليذهب إلى المناطق الشعبية ويلتقى بالناس البسطاء، ويأكل أسياخ اللحم المشوى من الكباب والشقف فى أزقة القاهرة وحاراتها، وخلال الزيارة حصل العدوان الإسرائيلى على غزة التى كانت تحت الإدارة المصرية، فلم يتوانَ عن القيام بزيارتها يوم 18 يونيو 1959 ويتجول فى المخيمات الفلسطينية، حيث استقبل بهتافات ترحيبية وتضامنية مع الثورة الكوبية».
يؤكد هيكل أنه حين بدأ جيفارا فى التطرق لموضوع الإصلاح الزراعى مع عبدالناصر بدا الاختلاف بينهما واضحًا، ويكشف: «كان أول سؤال وجهه جيفارا: كم من اللاجئين المصريين أجبروا على مغادرة البلاد؟ فرد عبدالناصر أن عددهم لم يكن كبيرا، وأنهم كانوا فى معظمهم من المصريين البيض، أى من فئة أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين تمصروا بحكم إقامتهم فى مصر»، يؤكد هيكل: «لم يسعد هذا الحوار جيفارا، فقال معلقًا: هذا يعنى أنه لم يحدث شىء كثير فى ثورتكم، إننى أقيس عمق التحول الاجتماعى بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم، بحيث يبدأون فى الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان فى المجتمع الجديد».
يواصل هيكل: «هنا شرح له عبدالناصر بأن ما يفعله هو تصفية امتيازات طبقة معينة، وليس تصفية أفراد تلك الطبقة»، وأضاف أنه يريد أن يفتت سلطة الإقطاعيين، لكنه لا يريد أن يحرم أفراد هذه الطبقة الإقطاعية من أن يصبحوا أعضاء نافعين فى المجتمع إذا شاءوا.
يؤكد هيكل: «أصر جيفارا على وجهة نظره، ولم تتمخض زيارته للقاهرة عن شىء يذكر، فقد كان الرئيس عبدالناصر حتى ذلك الوقت لا يولى الكوبيين وسياستهم الكثير من الاهتمام»، وفى عام 1965 كان اللقاء الثانى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة