مات دون أن يمتلك شيئا، وكان مدافعا غيورا على الأزهر، "عبد الحليم محمود" الاستاذ بكلية أصول الدين هو "عبد الحليم محمود" الوزير، وهو نفسه عبد الحليم محمود الإمام الأكبر وشيخ الازهر، لم يتأثر ببريق الحياة الزائف، وظل كما كان زاهدا فى المظاهر، وبقى كما كان فى شقة بالإيجار بحى الزيتون بالقاهرة،لم تتغير بتغير وضعه فى دنيا الوجاهة والمناصب، أعاد للأزهر الشريف هيبته وأنشا ألاف المعاهد الأزهرية والمساجد، واسترد لمشيخة الأزهر مكانتها ومهابتها، وتوسع فى إنشاء المعاهد الأزهرية على نحو غير مسبوق، وجعل للأزهر رأيا وبيانا فى كل موقف وقضية، وقف فى وجه قانون الأحوال الشخصية وتصدى له، استقبله الرئيس الأمريكى كاتير إستقبال رسمي، وصلى فى الكونجرس.
"اليوم السابع" تقابل مع الدكتور عاصم الشريف، أستاذ ورئيس أقسام أمراض الباطنة، بكلية الطب بجامعة الأزهر الشريف، و أول حفيد للشيخ من ابنته الكبرى "فهيمة" والذى قضى فترة دراسته فى منزل جده وكان أقرب الأحفاد لقلبه، وكشف لنا كواليس فى حياته الشيخ الزاهد الذى بشر الرئيس السادات بنصر أكتوبر.
فى البداية حدثنا عن الدكتور عاصم الشريف أول حفيد للشيخ عبد الحليم محمود؟
"عاصم محمود الشريف" مواليد أكتوبر 1948، أستاذ ورئيس أقسام أمراض الباطنة، بكلية الطب بجامعة الأزهر الشريف، من مواليد القاهرة، تخرجت من كلية الطب جامعة الأزهر سنة 1972، وعينت معيدا بالكلية وتقلدت عدد من المناصب إلى أن أسند إلى منصب عميد كلية الطب جامعة الأزهر الشريف، والآن أستاذ متفرغ بكلية، الطب جامعة الأزهر، ومتزوج ولدى 4 أبناء و8 أحفاد، وكنت الحفيد الأول للشيخ من ابنته الكبرى" فهيمة".
هل ما زال المنزل الذى كان يقيم فيه الشيخ عبد الحليم محمود فى حى الزيتون بالقاهرة كما هو؟
جدى رحمه الله، كان يقيم فى شقة بالإيجار بـ24 شارع العزيز بالله بحى الزيتون بالقاهرة، قد عرض عليه كثير من الأصدقاء والمسئولين الانتقال إلى فيلا بعد توليه مشيخة الأزهر، لكنه رفض وظل يقيم فى منزله، وبعد وفاته تنازل أبنائه عنها لصاحب الملك.
وماذا عن ذكرياتك مع هذا المنزل؟
بصفتى أول حفيد للشيخ، من ابنته الكبرى "فهيمة" التى تزوجت الدكتور محمود الشريف، العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية، كنت أشعر أنى مقرب ومحبب إليه، وفضيلة الشيخ كان عنده من الذكاء أن يشعر كل أحفاده نفس محبته لى، وكان يأخذنا لمنزله فترات الصيف والإجازات الصيفية، وينزل بنا فى الصباح الباكر إلى البقال ويشترى لنا الحلوى، وفى فترة دراستى فى الكلية سنة 1969 أقمت معه فى المنزل إقامة كاملة، وبعد وفاة والدتى التى توفت فى حياة الشيخ قرر أن أقيم معه بصفة دائمة، إلى أن تزوجت ونقلت إلى شقة الزوجية.
كيف كان يقضى الشيخ عبد الحليم محمود يومه؟
كان يومه يبدأ قبل الفجر بساعة، يؤدى صلاة القيام ثم يصلى الفجر، ويبدأ عنده النشاط العلمى والبحثي، و فى الساعة الثامنة صباحا يتوجه إلى مكتبه بالوزارة، وثم يعود للمنزل فى الساعة الثالثة عصرا، يقضى برهة من النوم، ويتناول مشروب القهوة الذى يحب أن يعده بنفسه، ثم يبدأ فى الفترة من العصر للمغرب فى عقد صالون ديني، فى منزله يستقبل فيه جميع المواطنين من كبار رجال الدولة من الوزراء والشخصيات العامة والبسطاء.
وكيف استقبل خبر توليه وزارة الأوقاف المصرية؟
الشيخ كان زاهد فى الحياة والمناصب، وأتذكر يوم ما عرض عليه تولى وزارة الأوقاف، استقبلت أنا الخبر، حيث اتصل الدكتور عبد الرحمن النجار وكيل وزارة الأوقاف، على تليفون المنزل، وردت عليه وقالى لى بالنص" جدك مرشح لوزارة الأوقاف" وبعد نص ساعة اتصل بى والدى وقالى نفس الخبر، وكان الشيخ نائم فى غرفته، لأنه متعود يصلى العشاء وينام، فلم أزعجه، إلى أن استيقظ كعادته قبل الفجر، فأبلغته الخبر، فابتسم ابتسامة خفيفة وقالى" ياشيخ"؛ ثم صلى الفجر، وفى الصباح انهالت التليفونات عليه، وكان ساعتها يشغل منصب وكيل الأزهر الشريف، واتصلت به الرئاسة لحلف اليمين، وفى ذلك اليوم لم يتغير عن ما كان عليه، وبعد توليه وزارة الأوقاف لمدة عام، ولم يتم ترشيحه للوزارة فى المرة الثانية، فوجئت باتصال بتعينه شيخ للأزهر، وكان رحمه الله ثابت جدا، المواقف لا تؤثر فيه.
يرى البعض أن سر بقاء اسم عبد الحليم محمود حتى الآن هو أنه كان إماما فى الدعوة إلى الله تعالى بسلوكه وقدوته قبل كلامه وتوجيهه وهو ما يتفتقده الدعاة الجدد ؟ هل أنت متفق مع ذلك؟
نعم فالشيخ كان إماما صادقا فى دعوته وسلوكياته وتعاملاته فى الحياة هى التى يتعامل بها مع الجميع وهى جزء منه لم يتغير أبدا، وكان معتز جدا بأصلة الريفى ويحب قريته جدا بالشرقية ويسافر إليها بإستمرار، ولم تغيره الحياة بكل ما أعطت له من مناصب بل كان زاهد فى الحياة، وسعى طوال حياته إلى نشر الدين الإسلامى بتعاليمه السمحة.
هل ترى أن مسلسل العارف بالله الذى قام ببطولته الفنان حسن يوسف كان منصف لسيرة ومسيرة الشيخ عبد الحليم محمود؟
المسلسل لم ينصف الشيخ تماما، وربنا يكرمهم قاموا بعمل عن حياة الشيخ، لكن المسلسل ركزا على نشأته وحياته الشخصية، ولم يتطرق إلى مواقف الشيخ، وكان له مواقف رائعة وقوية جدا والمسلسل لم يتناولها مطلقا مطلقا، مواقف غيرت مسار أمور كثيرة فى ذلك الوقت.
وما هى المواقف التى لم يتطرق إليها المسلسل من وجهة نظرك؟
فى يوليو سنة 1974 صدر قرار جمهورى خاص بتنظيم شئون الأزهر وتحديد مسؤولياته، على أن يكون الأزهر تابعا لمسئولية وزير شئوون الأزهر، مما أفقد الأزهر استقلاله، فأسرع الشيخ بتقديم استقالته، احتجاجا على القرار، وتدخل الحكماء لإقناعه بالعدول عن قراره، لكنه أصر على استقالته، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض تناول راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه الاستقالة دويا هائلا فى مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وإزاء هذا الموقف الملتهب اضطر الرئيس السادات إلى معاودة النظر فى قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلى نصابه، جاء فيه:" شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية" فضلا عن موقفه من إعادة أموال الأوقاف للأوقاف.
قلت أن جدك له موقف كبير فى إعادة أموال الأوقاف للأوقاف وبناء المساجد، كيف ذلك؟
أثناء توليه لوزارة الأوقاف، وجد أن للوزارة أوقاف بالملايين، أخذها الإصلاح الزراعي، لإدارتها لحساب الوزارة، فلم تعد تدر إلا القليل، فاسترد هذه الأوقاف من الإصلاح، لإدارتها لحساب الوزارة، لتدر خير وفير، استغله فى بناء المساجد، حيث عنى بالمساجد عناية كبيرة، فأنشأ عددا منها، وضم عددا كبيرا من المساجد الأهلية، وجدد المساجد التاريخية الكبرى مثل جامع عمرو بن العاص ثانى أقدم المساجد فى إفريقيا بعد مسجد سادات قريش بمدينة بلبيس محافظة الشرقية.
لماذ سمى عصر تولى الشيخ لمشيخة الأزهر بالعصر الذهبى للمعاهد الأزهرية؟
حينما تقلد منصب شيخ الأزهر كان يسمى العصر الذهبى للمعاهد الأزهرية، وكانت قبل عهده المعاهد تعد على الأصابع، وأنشأ فى عهده ألاف المعاهد على مستوى الجمهورية، وجاب القرى والمدن يدعو الناس للتبرع لإنشاء المعاهد الدينية، فلبى الناس دعوته وأقبلوا عليه متبرعين، ولم تكن ميزانية الأزهر تسمح بتحقيق آمال الشيخ فى التوسع فى التعليم الأزهري، فكفاه الناس مئونة ذلك، لثقتهم فيه وكذلك الدول العربية ساعدته ثقة فيه، وكان يقصد من ذلك نشر التعليم الأزهرى الإسلامى الصحيح وسمح بقبول تحويل الطلاب من التربية والتعليم إلى الأزهر لنشر التعليم الأزهرى، وبث روح التربية الإسلامية فى النشأة، وكان لا ينقطع فى المناسبات الدينية، وكان قدوة، ومثل أعلى لأهل القرية ويصل الرحم ولا ينقطع عن الاتصال بأهل القرية، لدرجة أنه لا يوجد أسرة بالقرية إلا وتسمى ابنها عبد الحليم، ونجلى أيضا إسمه عبد الحليم ولا يوجد شخص فى العائلة ينجب ولد إلا ويسميه على إسم الشيخ.
من هم أصدقاء الشيخ على المستوى العائلي؟
الشيخ كان مقرب من الجميع وطيب جدا بالرغم من أن له مهابة كبيرة، وكان منزله مفتوح للجميع يستقبل فيه الفقير قبل الغني، وأكثر المقربين من جدى كان الشيخ الحصري، وأيضا الفنان حسين صديقي، بعد ما اعتزل الفن كان يزور الشيخ كثيرا بالمنزل ومعه أبنائه وزوجته.
ما هو الموقف الذى حزن الشيخ وبكى فيه بشدة؟
عند وفاة والدتى وهى ابنته الكبرى، تأثر جدا وحزن عليها حزنا شديد، وكان يقتضى فى حزنه برسول الله، حيث نزل فى اليوم الثانى لوفاة والدتى إلى ممارسة شئون عمله، حيث حضر مجمع البحوث الاسلامية فى القاهرة.
حدثنا عن بشرة النصر فى حرب أكتوبر التى قالها للرئيس السادات؟
رأى الشيخ عبد الحليم محمود، قبيل حرب رمضان المجيدة، رسول الله فى المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة، واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب مطمئنا إياه بالنصر، ولم يكتف بهذا، بل انطلق عقب اشتعال الحرب إلى منبر الأزهر الشريف، وألقى خطبة عصماء توجه فيها إلى الجماهير والحكام مبينا أن حربنا مع إسرائيل هى حرب فى سبيل الله، وأن الذى يموت فيها شهيدٌ وله الجنة، أما من تخلف عنها ثم مات فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق، وكانت نتيجة الإعداد الجيد الذى قام به الجيش المصرى، مضافا إليه طمأنة الدكتور عبد الحليم محمود لرئيس البلاد وحَفْزه إياه على شن الحرب ضد الإسرائيليين، التى تحتل جزءا غاليا من تراب مصر، هى ما أسفرت عنه الحرب الرمضانية المجيدة من نصر كبير.
بحكم إقامتك للشيخ هل أسلم على يده أشخاص بالدول الأوربية؟
نعم أسلم على يده العشرات، حيث سعى الشيخ طول فترة حياته لنشر الدين الاسلامى فى جميع أنحاء العالم، وعقد لقاءت فى كافة الدول الأوروبية والعربية، والرئيس الأمريكى "كارتر" استقبله استقبال حافل، مشرف ورحب به ترحيب كبير، لما عرف عنه أنه شيخ أكبر مؤسسة دينية فى العالم وعمل لقاءات كبيرة جدا وخطب فى الكونجرس الأمريكي، ورافقه فى هذة الجولة الشيخ الحصرى الذى أذن فى الكونجرس، وبعد زيارة جدى لأمريكا، تم تأسيس غرفة فى الكونجرس لتأدية الصلاة للمسلمين، وللشيخ أكثر من 60 مؤلفا فى التصوف والفلسفة، بعضها بالفرنسية، من أشهر كتبه: "أوروبا والإسلام"، و"التوحيد الخالص "أو "الإسلام والعقل"، و"أسرار العبادات فى الإسلام"، و"التفكير الفلسفى فى الإسلام"، و"القرآن والنبي"، و"المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي".
حدثنا على أخر 24 ساعة فى حياة الشيخ قبل وفاته ؟
بعد عودة الشيخ الإمام عبد الحليم محمود من رحلة الحج فى 16 من ذى القعدة 1398هـ، الموافق 17 من أكتوبر 1978م قام بإجراء عملية المرارة، وأتذكر يومها أنه كان رافض إجراء العملية وقالى لى نصا "الأولياء رافضين العملية لكن الأطباء مصريين" وأقنعته بإجرائها وتوفى بعد 3 أيام من إجراء العملية، وتلقت الأمة الإسلامية نبأ وفاته بالأسى، وصلى عليه ألوف المسلمين الذين احتشدوا بالجامع الأزهر ليشيعوه إلى مثواه الأخير، تاركًا تُرَاثًا فِكْرِيًّا زَاخِرًا، ما زال يعاد نشره وطباعته، وتم دفنه بضريح بناه شقيقه الشيخ عبد الغنى بجوار مسجد القرية بالشرقية، بعد أن تبرع الإمام بجميع ما يملك، ومات دون أن يترك شىء سوء سيرته العطرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة