حين توفى الموسيقار كمال الطويل يوم 9 يوليو «مثل هذا اليوم عام 2003»، ودعه الملايين فى أرجاء الوطن العربى، وهم يستدعون ذكرياتهم مع كل جملة موسيقية قدمها هذا المبدع الاستثنائى فى تاريخ الموسيقى العربية.
ولد يوم 11 أكتوبر 1922 فى أسرة أرستقراطية، وانتظر الظرف التاريخى الذى يصعد بموهبته الموسيقية إلى الآفاق، ولما جاءت ثورة 23 يوليو 1952، «شكل مع صلاح جاهين وعبدالحليم حافظ القوة الإبداعية للثورة»، بتقدير الناقد طارق الشناوى فى «كمال الطويل الذى أحببته- المصرى اليوم 9 يوليو 2017»، أما الدكتور عمرو عبدالسميع، وفى كتابه «بعض من الذكريات» فيراه، المبدع الذى يمثل بأنغامه وموسيقاه جزءا هائلا من الحالة الشعورية والعاطفية التى استغرق فيها جيله من خلال أغانى «ليه خلتنى أحبك» لليلى مراد، و«أسمر يا أسمرانى» لفايزة أحمد، و«الناس المغرمين» لمحمد عبدالمطلب، ومع عبدالحليم حافظ فى باقة هائلة من الأغانى.. راح، الحلوة، بلاش عتاب، جواب، بتلومونى ليه، قولوا له الحقيقة، الحلو حياتى، هى دى هيه، كفاية نورك عليه، بعد إيه، صدفة، فى يوم من الأيام، لا تلومنى، على قد الشوق، وغيرها.
«كان لديه الموهبة البكر والثراء الذى لا يشبه أحدا»، بوصف مجدى العمروسى «مدير أعمال عبدالحليم حافظ فى كتابه «أعز الناس»، مضيفا: «ألحانه تتدفق وغزيرة، لا تحتاج إلى أى جهد أو مشقة، مستخدما فى التلحين أى شىء، فهو قد يضبط إيقاع جملة على ظهر عود، وليس على أوتاره، أوظهر كرسى أو خشب مائدة، وفى بعض الأحيان يستلهم أصابع البيانو، ثم ينتقل منها إلى ظهر العود، ثم إلى خشب المائدة، وهكذا.. لم أر كمال فى حياتى يتوقف عن التلحين أو الدندنة لأنه لا يجد آلة موسيقية، أى شىء يجده يصنع منه آلة يعزف عليها، أو بمعنى أصح ينقر عليها.. لحن على «قد الشوق» كان همهمة داخلية ونظرات زائغة، ثم جملا يركبها على بعضها، وخطوات يمشيها على غير هدى، ثم هى أخيرا تصبح على قد الشوق».
ويصفه محمد عبدالوهاب فى كتاب «رحلتى» لفاروق جويدة: «فنان موهوب وعاقل، يوحى إليه بجمل جميلة، وهو لايؤمن بأن الجملة الجميلة هى كل شىء، بل يؤمن بالعمل الفنى ككل، وأنت تحس فى عمله الفنى بالمعاناة والتعب والعرق».
أثناء جمع مادتى لكتابى «أم كلثوم وحكام مصر» التقيت به مرتين لنحو أربع ساعات فى مسكنه بحى الزمالك عام 1997 بالإضافة إلى الكثير من المكالمات التليفونية الطويلة، وكانت حصيلتى شهادة تاريخية ثمينة شملت أسرارا كثيرة فى السياسة والفن، حدثنى عن نفسه منذ أن كان تلميذا فى مدرسة الأورمان الابتدائية ويشارك فى المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزى، ثم إيمانه الشديد بثورة يوليو 1952 وقائدها جمال عبدالناصر، وبالرغم من ناصريته انضم إلى حزب الوفد بعد عودته إلى الحياة السياسية فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، وانتخابه نائبا فى البرلمان على قائمته.
قال لى: «ينظرون لى فى حزب الوفد أننى خارج التنظيم، يسألوننى عن سبب حماسى للثورة وعبدالناصر، أقول لهم: الثورة عملت اللى فشلتم فيه، كان فيه إيه غير الشجب والرفض، جاءت مجموعة شباب وقائد شاب اسمه عبدالناصر، وحققوا مطالب الوفد، مجانية التعليم، طرد الإنجليز، حد أدنى للأجور، انحياز للطبقات الكادحة، محاربة السرايا وإسقاطها، التففنا حول عبدالناصر كشباب، لم يكن هناك واحد متردد ولا واحد قال «وأنا مالى».. كان عبدالناصر حلمنا، وقال اللى فى نفسنا نقوله.. واحد مثل صلاح جاهين، وأنا أسميه «جبرتى الثورة» عمرى ماحسيت أن أشعاره بيكتبها بصعوبة، ولم أشعر بصعوبة فى تلحينها، وأول أغنية وطنية كتبها صلاح ولحنتها كانت «إحنا الشعب/اخترناك من وسط الشعب».. قبلها لحنت نشيد «إنى ملكت بيدى زمامى» لمأمون الشناوى».
يؤكد: «لم نتلق توجيها من أحد، أو التزاما بمعنى محدد فى الغناء.. فى العدوان الثلاثى عام 1956 بدأت انطلاقة الألحان الوطنية.. عملت «والله زمان ياسلاحى/ اشتقت لك فى كفاحى».. كان داخلى نار، البلد بتنضرب أمام عينى وأخويا على الجبهة بيحارب، اتصلت بصلاح جاهين وقلت له: «يا صلاح أنا فى دماغى مزيكة، وأقول لك شكلها إيه، ودندنت بمزيكة غير مكتملة.. رد صلاح: أغلق السكة ياكمال، ووضعت السماعة، وبعد فترة قليلة اتصل وقال: اسمع: والله زمان يا سلاحى..اشتقت لك فى كفاحى.. انطق وقول أنا صاحى.. يا حرب والله زمان.. والله زمان ع الجنود.. زحفة بترعد رعود.. حالفة تروح لم تعود.. إلا بنصر الزمان».
يواصل الطويل: «اتصلت بأم كلثوم، قرأت عليها الكلام وسمعتها اللحن، ذهبنا إليها فى فيلتها فورا، كان عندها أحمد الحفناوى عازف الكمان، وعبده صالح عازف القانون وقائد فرقتها الموسيقية، وإبراهيم عبده عازف الإيقاع، وبدأنا.. جلسنا على ضوء الشموع لأنه كان ممنوع إضاءة الأنوار خوفا من الغارات، وفجأة خرجت أم كلثوم من الصالون إلى البلكونة على صوت طائرة، جريت وراءها: تعالى، ادخلى بدل ماشظية تصيبك، ردت: شظية إيه ياكمال.. أنا نفسى أمسك طيارة أفعصها بإيدى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة