نحن نتحدث كثيرًا عن تجديد الخطاب الدينى دون أن نعلن خطوات واضحة ومحددة فى هذا الطريق، أتصور أنه لا يمكن البدء فى هذه المسيرة دون إعلان واضح وصريح من المؤسسات الدينية أن العقل هو أساس التشريع، لأن العقل هو أساس التوحيد.
إذا كان العقل هو أساس التوحيد، أو أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، قد أدرك وحدانية الله بالعقل، فإن العقل أيضًا هو أساس الفقه الإسلامى، والتشريع الإسلامى.
دون حديث واضح وحسم عن دور العقل فى عملية التشريع، ودور العقل فى قراءة الواقع الجديد للمسلمين، والمصالح الجديدة لهم، وتحديد أسس التشريع والفقه وفق الرؤية العقلية، دون حديث واضح فى هذا السياق، لن تكون هناك أى خطوة للتجديد.
كنت قد كتبت من قبل حول هذه القضية مع بدية الحوار حول تجديد الخطاب الدينى، وأرى أن هذه الكلمات يجب أن نقرأها، وننصت إليها مرة أخرى.
يضحكنى هؤلاء الذين يعبدون النص الموروث أكثر مما يعبدون الله تعالى، ثم يتنطعون عليك بما حفظوا من الكتب القديمة بأوراقها الصفراء ليقولوا إنه لا يمكن للعقل أن يعمل مع النص، لتصبح النصوص القديمة هى الدين بذاته، مع أن عقيدة الوحدانية تؤكد أن الدين أساسا عمل عقلى من طراز فريد، الدين أساسه العقل، فكيف يجرؤ هؤلاء على أن يلغوا العقل مع النص، ثم يكون «أى نص» من السلف الصالح هو الدين بذاته، ويكون أى عمل عقلى لمصلحة المسلمين هو «خروج عن الدين»؟
العقل هو الذى قاد إبراهيم النبى، عليه السلام، إلى وحدانية الله تعالى، نحن إبراهيميون، أيها الأحبة، هذا النبى الباحث عن الحقيقة، هو من سمانا «المسلمين»، هذا النبى الذى استخدم العقل للوصول إلى الله والفوز بعقيدة الوحدانية، هو أساس الإسلام، العقل هو الذى قادنا إلى هذا الدين، فلما رأى القمر آفلا أدرك أنه لا يصلح للألوهية، ثم لما تأمل إبراهيم بعقله فى دوران الشمس وفى إشراقها وغيابها، عرف أن الرب هو أكبر كثيرا من ذلك، فيمم النبى الباحث عن الحقيقة وجهه للذى فطر السموات والأرض حنيفا، وما كان من المشركين.
لم يكن الله قد بدأ اتصاله مع النبى إبراهيم، لم يرسل له جبريل عليه السلام، ولم يحدثه من فوق جبل أو حتى من وراء حجاب، إبراهيم وصل إلى الله أولا بالعقل، وبالبحث، وبالتحليل، وبالمعرفة، وبربط عناصر الطبيعة مع القوة العظمى التى تحرك هذا الكون.
فإذا كنا قد آمنا بالوحدانية عقلا، فكيف نعبد الله بعد ذلك بلا عقل؟
كيف صرنا نعبد فتاوى الماضى، ونعزل الفتاوى عن سياقها الزمنى، ولا نؤمن بأننا نتبع صحيح الدين الحنيف إلا إذا تأكدنا من ذلك عبر أى من الكتب الصفراء القديمة، ولا نثق فى أننا نتعبد إلى الله على النحو الأصوب إلا إذا كان سلوكنا فى الوقت الحاضر يتطابق مع فتوى نطق بها عالم قبل ألف عام أو أكثر، واستخرجها لنا أحد عبدة الكتب الصفراء، ليقول لنا إن هذا هو الدين، ولا دين غيره؟!
هذا النهج يتعارض بالأساس مع منهج إبراهيم النبى، عليه السلام، ويصطدم بالعقل الذى قادنا إلى الوحدانية وأسس قواعد هذا الدين، وإذا تأملت قليلا فستدرك أن كل عظماء هذا الدين اعتمدوا على العقل فى قيادة الأمة الإسلامية منذ فجر تأسيس دولة المدينة، النبى محمد، صلوات الله وسلامه عليه، استخدم عقله فى قيادة دولة المدينة بمعاهداته مع يهود يثرب، والنبى محمد وقع بإرادة منفردة وبحكمة سياسية فذة صلح الحديبية، وأوقف مؤقتا، ولحكمة أكبر، مسيرة هذا الحشد من الصحابة الذين كانوا على وشك دخول مكة المكرمة، ثم من بعد محمد النبى، صلوات الله عليه، حارب أبوبكر مانعى الزكاة فى قرار عقلى لم يكن يستند إلى نص سابق أو سنة أقدم عليها النبى من قبله، ثم من بعد أبو بكر منع عمر بن الخطاب تطبيق الحدود فى عام المجاعة، وابتكر عمر بن الخطاب الكثير من الأحكام وفق مقتضيات عصره ووفق تطورات الأحداث التى لم تكن طرأت فى عهد النبى أو نزل بها الوحى فى نص قرآنى بأحكام قاطعة.
حتى ابن تيمية الذى يستند إليه الكثير من المتطرفين اليوم كان يقدم على الفتوى فى سياق عصره وبعمل عقلى كامل دون استناد إلى نص، ابن تيمية مثلا هو صاحب فتوى «التترس»، وفى هذه الفتوى أباح الرجل للجيش المسلم الذى يصد زحف التتار على الأمة الإسلامية أن يقتل الدروع البشرية من بسطاء المسلمين الذين كان الجيش التترى يستخدمه فى مقدمة الصفوف للزحف على المدن الإسلامية، أى أن ابن تيمية أصدر فتوى تتعارض جملة وتفصيلا مع النصوص التى سبقته، إذ سمح للجيش المسلم أن يقتل المسلمين حماية للأمة من غزو التتار.
إذا كان العقل هو عنوان هذا الدين منذ إبراهيم النبى، وإذا كان العقل هو سبيل الصحابة وكبار العلماء وأكثرهم تشددا فى إنتاج الفتوى، فكيف تريدون لنا الآن أن نعبد فتاوى الماضى أكثر مما نعبد الله بالعقل والإدراك والفهم.
أفلا تعقلون؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة