حالة الانقسام الراهنة داخل حلف شمال الأطلسى، على خلفية العدوان التركى على سوريا، ليست جديدة على الإطلاق، حيث تمثل امتدادا لحالة، ضربت التحالف التاريخى، الذى طالما شكل رمزا للمعسكر الغربى، الذى تقوده الولايات المتحدة، منذ حقبة الحرب الباردة، بينما كانت تركيا أهم عوامل هذا التشرذم، فى ظل مواقفها التى تمثل انقلابا صريحا على مبادئه، فى السنوات الماضية، فى ظل قيامها بشراء منظومة الصواريخ الروسية "إس 400"، وكذلك انضمامها إلى مظلة "أستانا"، بصحبة روسيا وإيران، لحل الأزمة السورية، وهو ما يعكس التحالف التاريخى ربما على وشك الإنهيار فى المستقبل القريب، مع زيادة الانقسامات، التى وصلت إلى حد التهديدات المتبادلة بين أعضاء التحالف.
ففى أعقاب التلويح التركى بالعدوان على شمال سوريا، وما تلا ذلك من إجراءات دولية، وعلى رأسها القرار الأمريكى بالانسحاب العسكرى من سوريا، يبقى مستقبل "الناتو" على المحك فى المرحلة المقبلة، خاصة مع تعارض الأهداف بين الدول الأعضاء، إلى الحد الذى دفع العديد من الدول الأوروبية لمقاطعة أنقرة عسكريا، وهو الأمر الذى يصب فى النهاية فى صالح روسيا، والتى كان يشكل التحالف كابوسا بالنسبة لها، خاصة مع تزايد الخطوات التى اتخذها بعد نهاية الحرب الباردة، والتى أسفرت عن انهيار الاتحاد السوفيتى، والتى قامت فى الأساس على ضم العديد من دول أوروبا الشرقية، إلى عضويته، فى محاولة صريحة من قبل الغرب لانتهاك المحيط الجغرافى لروسيا، عبر التوغل فى الجمهوريات السوفيتية السابقة، وهو ما أثار امتعاض موسكو لسنوات طويلة.
منع تصدير السلاح
العدوان التركى على سوريا كان الرد عليه من أعضاء الحلف، "ألمانيا وهولندا وفرنسا"، مباشرة بعدم تصدير السلاح إلى أنقرة، وأكد وزير الخارجية الألماني هايكو ماس أن بلاده ستوقف تصدير السلاح إلى تركيا، وأعلنت وزارتا الخارجية والجيوش الفرنسيتان، أن "فرنسا قررت تعليق أي مشروع لتصدير معدات حربية إلى تركيا يمكن استخدامها في إطار الهجوم في سوريا"، وأن "مفعول هذا القرار فوري"، لافتتين إلى أن "مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي يجتمع في 14 أكتوبر في لوكسمبورج، سيكون مناسبة لتنسيق مقاربة أوروبية في هذا الصدد".
التخلى الأمريكى.. واشنطن تلقى المزيد من الضبابية على مستقبل "الناتو"
ولعل ضعف الناتو بدا واضحا مع حالة التخلى الأمريكى عنه فى السنوات الماضية، خاصة مع بزوغ نجم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على الساحة الدولية، حيث امتلأت خطاباته بالتهديدات للتحالف، وصلت إلى حد التهديد بالانسحاب منه، فى حالة رفض الدول الأعضاء الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه "الناتو"، خاصة وأن الخزانة الأمريكية تكبدت مليارات الدولارات فى سبيل حماية شركائها الأوروبيين، وهو التهديد الذى ربما ساهم فى إثارة حالة من الضبابية حول مستقبل الحلف، خاصة وأن الموقف الذى أعلنه الرئيس دونالد ترامب يبدو غير مسبوق على الإطلاق.
ولم يتوقف التجاهل الأمريكى تجاه "الناتو"، على مجرد التصريحات والتهديدات، ولكنه اتجه إلى خطوات صريحة تجاهل خلالها التحالف التاريخى للغرب، من بينها تعزيز الوجود العسكرى لواشنطن فى بولندا، دون تنسيق مع قيادات الحلف، بالإضافة إلى قرار ترامب الأخير بالانسحاب من سوريا، يساهم بصورة كبيرة فى تعزيز المخاوف الأوروبية، تجاه مستقبل الناتو فى المرحلة المقبلة، على الرغم من أن القوات الدولية التى تقودها واشنطن فى سوريا، لا تحمل غطاء "الناتو"، وإنما تحت ما يسمى بقوات التحالف الدولى، ولكنها تمثل إشارة مهمة، حول الاستعداد الأمريكى للتخلى القوات الأوروبية، والتى تجد نفسها إثر الانسحاب الأمريكى فى موقف حرج، فى ظل هيمنة القوات الروسية على الموقف فى سوريا، منذ عام 2015، حيث لعبت موسكو الدور الأهم والأبرز فى دحض تنظيم داعش، كما أنها فرضت كلمتها على المجتمع الدولى، بدعم نظام الرئيس السورى بشار الأسد.
انقلاب تركى.. أنقرة تضع موسكو فى مواجهة حلفائها
الموقف الحرج الذى يعانيه الناتو، يحمل العديد من الأبعاد، وعلى رأسها ما يمكننا تسميته بحالة "التخلى" الأمريكى عن التحالف، فى ظل رؤية الإدارة الحالية التى لا تؤمن بهيمنة المؤسسات بشكل عام، بالإضافة إلى انقلاب بعض الأعضاء على مبادئ الحلف، وعلى رأسها العمل على الإضرار بمصالح الدول الأخرى الأعضاء فى التحالف الغربى، وعلى رأسهم تركيا، والتى وصل بها الأمر مؤخرا إلى تهديد دول أوروبا الممتعضين من عدوانها على سوريا بفتح الأبواب أمام اللاجئين لدخول الأراضى الأوروبية، وهو ما يمثل إضرارا مباشرا بالمصالح الأوروبية فى المرحلة الحالية، فى ظل مخاوف كبيرة من تسلل عناصر من تنظيم داعش الإرهابى إلى أراضيهم، وقيامهم بتنفيذ عمليات إرهابية فى الداخل.
الموقف التركى المناهض للناتو ليس بالجديد، حيث سبق للأتراك الاستقواء بروسيا، والتى تمثل الخصم التاريخى للمعسكر الغربى، ليس فقط بالإنقلاب على قواعد الحلف عبر شراء منظومة صواريخ روسية، ولكن أيضا من خلال التحالف مع موسكو وطهران، فيما يسمى بمحادثات "أستانا"، وهو ما يحمل انتصارا ضمنيا للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، يحمل بعدا رمزيا، يتجاوز حالة الانقسام التى ضربت التحالف التاريخى للغرب، يتمثل فى وضع مظلة "أستانا" كبديل لمحادثات "جنيف"، التى كانت تمثل رؤية الولايات المتحدة والغرب الأوروبى للأوضاع فى سوريا، ليكون ذلك بمثابة إعلان رسمى بسيطرة موسكو على مقاليد الأمور بالكامل على الساحة الروسية على حساب خصومها التاريخيين.
مستقبل مظلم.. "الناتو" يلفظ أنفاسه الأخيرة
يبدو أن مستقبل الناتو المظلم ألهم عددا من القادة الأوروبيين للبحث عن بديل، فى المرحلة المقبلة، وهو ما بدا واضحا فى الرؤية التى سبق وأن أعلنها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى نوفمبر الماضى، إبان الاحتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى فى باريس، عندما أكد الحاجة القوية لتشكيل جيش أوروبى موحد، لمواجهة من أسماهم بخصوم أوروبا، وهم روسيا والصين والولايات المتحدة، وهو التصريح الذى أثار امتعاض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب آنذاك، حيث اعتبر أن وضع الولايات المتحدة فى نفس الكفة مع روسيا والصين، بمثابة إهانة للولايات المتحدة.
ولعل الموقف الروسى تجاه تصريحات ماكرون كان على النقيض تماما، بالرغم من العدوانية الشديدة التى يحملها التصريح الذى أدلى به ماكرون تجاه موسكو، حيث أعرب عن دعمه للفكرة، معتبرا أنه من شأنها ضمان الأمن الأوروبى، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لإدراكه لحقيقة أن "الناتو" يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو ما يمثل انتصارا رمزيا مهما لموسكو، والتى طالما أعربت عن انزعاجها من تحركات التحالف فى محيطها الجغرافى.
التقارب مع موسكو.. خيار الغرب
ويمثل العدوان التركى على شمال سوريا، استمرارا لحالة الترهل التى يعانيها الحلف فى المرحلة الراهنة، خاصة وأن أنقرة، والتى طالما اعتمد عليها الحلف باعتبارها أحد القوى المهمة فى الشرق الأوسط، لم تتجاهل فقط التنسيق مع قيادات الحلف، ولكنها تجاهلت مخاوف حلفائها، ولجأت إلى تهديدهم لإجبارهم على الصمت تجاه الانتهاكات التى ترتكبها تركيا فى شمال سوريا، تحت ذريعة محاربة الإرهاب الكردى، وبالتالى تصبح روسيا المنتصر الوحيد تجاه التطورات الراهنة، والتى تنبئ بنهاية التحالف.
وهنا يمكننا القول بأن التنسيق مع روسيا هو الخيار المتاح بين أعضاء "الناتو" المشاركين فى قوات التحالف الدولى، فى المرحلة المقبلة، باعتبارها القوى الرئيسية المهيمنة على الوضع فى الأراضى السورية، منذ دخولها العسكرى، فى عام 2015، فى ظل انحسارهم بين الانسحاب الأمريكى، والخطر التركى الراهن، وهو الأمر الذى ربما يفتح آفاقا جديدة للقوى الروسية فى المرحلة المقبلة، لتتجاوز مجرد الهيمنة والنفوذ فى الشرق الأوسط، إلى مناطق أخرى من العالم، وفى القلب منها أوروبا، على حساب الخصم الأمريكى الذى استحوذ على أوروبا لعقود طويلة من الزمن.