توفى أمير الشعراء أحمد شوقى فى الساعة الثانية ليلة الجمعة 14 أكتوبر 1932، فعمت الأحزان، وتنوع التعبير عنه، واختارت سيدة الغناء العربى أم كلثوم أن تغنى قصيدته «سلوا كؤوس الطلا» وكانت هى ملهمته فيها.
كان تصرفها تأكيدا لتقديرها العظيم للشعر والشعراء، وتقديرها الخاص لشوقى.. يذكر الناقد رجاء النقاش فى كتابه «لغز أم كلثوم» وقائع حوار أجراه معها، وفيه تظهر ثقافتها الرفيعة بالرغم من أنها لم تحصل على أى شهادة دراسية.. قالت: «قرأت مختارات الشعر القديم مثل ديوان «الحماسة» لأبى تمام، كما قرأت كل كتاب الأغانى للأصفهانى، وكل هذه القراءات كان للشاعر أحمد رامى فضل كبير فيها، ولذلك فأنا أعتبره صديقى وأستاذى معا».. سألها «النقاش»: من هم الشعراء الذين تفضلينهم على غيرهم؟.. أجابت: «أقرب الشعراء القدماء إلى قلبى «مهيار الديلمى”، و«الشريف الرضى»، هما شاعران من مدرسة فنية واحدة هى مدرسة الرقة والأناقة والهمس فى الشعر العربى.. الشريف هو صاحب هذا البيت الجميل: «وتلفتت عينى فمذ خفيت/ عنى الطلول تلفت القلب».. وهو أيضا صاحب بيت: «خطبتنى الدنيا فقلت لها ارجعى/ إنى أراك كثيرة الأزواج»..أما مهيار فهو صاحب هذا البيت الجميل: «ملكت نفسى مذ ملكت طمعى/ اليأس حر والرجاء عبد».
أضافت أم كلثوم: «الحديث يطول عن هذين الشاعرين القديمين العظيمين، أما بالنسبة للعصر الحديث فشوقى هو عندى شاعر الشعراء، وجمع أعظم ما فى الشعر العربى كله من خصائص فنية أصيلة».. يذكر الناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى فى كتابه «تراث الغناء العربى: «كان لابد من لقاء صوت أم كلثوم بقصائد شوقى، لأن أكبر مطربة فى عصر شوقى وبعد عصره لاينبغى أن تمر بقصائده دون أن تعيرها التفاتا.. وكان شوقى هو المبادر إلى أم كلثوم حين كتب فيها قصيدته الوجدانية البارعة: «سلوا كؤوس الطلا»، فكانت أول قصيدة من شعره حفظتها أم كلثوم سنة 1931، ومضت سنوات قبل أن تغنيها».
يؤكد النجمى: «غنت أم كلثوم خلال ستين عاما ثلاثمائة أغنية، منها ستون قصيدة، من بينها تسع قصائد لشوقى».. وحول خصوصية «سلوا كؤوس الطلا»، يذكر صميم الشريف فى كتابه «السنباطى وجيل العمالقة»، نقلا عن حديث نادر أجراه السنباطى للتليفزيون الكويتي.. أن السنباطى غنى لشوقى «مقادير من جفنيك» قبل أن يغنيها محمد عبدالوهاب.. وأن شوقى سأله عن معنى إحدى الكلمات، فلم يعرف، فقال له شوقى: إياك أن تلحن أى كلمة دون أن تعرف معناها».. يؤكد السنباطى وفقا للشريف: «عملت بهذه النصيحة منذ ذلك التاريخ ، فلم ألحن كلاما أو شعرا إلا إذا استوثقت من المعنى تماما».
يتذكر السنباطى: «فى تلك الأيام كنت بشتغل بقصيدة «سلوا كؤوس الطلا» وهى قصيدة صعبة جدا، تفرغت لها تماما، وعملت فيها سنة كاملة، ولهذه القصيدة قصة.. كانت أم كلثوم فى قصر أحد الباشوات تحيى ليلة ساهرة لأصدقاء هذا الباشا، وفى تلك السهرة التى ضمت فيمن ضمت الشاعر العظيم أحمد شوقى، تقدم منها أحد الباشوات وقدم لها كأسا من الويسكى، وبما أن أم كلثوم لا تقارع الخمرة، فقد وضعت الكأس على فمها ولم تسمها بشفتيها».
يضيف السنباطى: «فى اليوم التالى تلقت أم كلثوم رسالة من شوقى، تتضمن القصيدة، فاحتفظت بها بعض الوقت، وعندما نعى الناعى أحمد شوقى، تأثرت، ولا أدرى ما الذى جعلها تتصل بى فى ذاك اليوم الحزين، تطلب منى الحضور فورا، وما كدت أصل لبيتها وكانت تقيم فى شقة بعمارة «بهلر» بالزمالك، حتى قدمت لى رسالة شوقى وقالت: اقرأها. فقرأتها، وكانت لا تضم سوى قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» التى تروى الحادثة إياها: «سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها/ واستخبروا الراح هل مست ثناياها/ بانت على الروض تسقينى بصافية/ لا للسلاف ولا للورد رياها/ ما ضر لوجعلت كأسى حراشفها/ ولو سقتنى بصاف من حمياها».
يستكمل السنباطى: «قلت لها قصيدة رائعة، فروت لى الحادثة والدموع تترقرق فى عينيها، لأعيش الشعر الذى نظمه شوقى فيها، ثم طلبت إلى تلحينها».. يؤكد الشريف: «استغرق تلحين هذه القصيدة زمنا طويلا، استلمها السنباطى عام 1932 ولم يُنه تلحينها إلا بعد سنوات».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة