قال الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الاهتمام بوضع نظرية كلية لإدارة الخلاف الفقهي، يعد نمطًا جديدًا من أنماط التجديد الذى نسعى له جميعا، فعلى الرغم من توجه الفقه المعاصر توجهًا حسنًا نحو صياغة نظريات فقهية حديثة شملت موضوعات كثيرة مثل: الحق – الواجب الملكية – الشخصية – الضرورة – الالتزام – العقود – الضمان – النُّظم"، إلا أن قضايا الخلاف الفقهى لم تحظ حتى الآن بنظرية كلية عامة.
وأضاف خلال بحثه بعنوان "نحو نظرية كلية لإدارة الخلاف الفقهى"، والمقدم بمؤتمر الأمانة العام لدور وهيئات الإفتاء بالعالم، المنعقد اليوم الثلاثاء، والذى ألقاه نيابة عنه الشيخ سعد الازهرى، إننا نحتاج إلى صياغة هذه النظرية؛ نظرًا لكثرة لتلاعب والتخبط الذى شاب ممارسات الجماعات المتشددة المعاصرة فى قضايا الخلاف، لأنهم لم يتربوا في بيئة علمية محترمة كالأزهر الشريف ولم يتلقوا العلم على أيدي العلماء الربانين، ولم يتبركوا بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، فقست قلوبهم وحولوا الخلاف الذي هو في حقيقته مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالأمة المحمدية، وسبب من أسباب السعة والمرونة، إلى سبب من أسباب الشقاق وسوء الأخلاق.
وتابع : لم يفرق هؤلاء المتشددون بين الظنى والقطعى ولا بين الثابت والمتغير، فاضطربت نظرتهم للفقه، وكفروا المخالف في قضايا الفروع، سواء أكانت فروعا في العقيدة أو فروعا في الفقه، والأمة الإسلامية الآن تتطهر من هذا الجمود والتشدد، وتتشبث بالمنهج الوسطي وسماحة الاعتدال، وتريد أن تعود بالدين غضا طريا كما كان في عهود سلفنا الصالح، وما تتابع عليه علماء الأمة جيلا بعد جيل.
وأضاف أن تجديد الفتوى مرتبط بتجديد أصول الفقه ومن ثم تجديد الفقه، ولكنها تتغير وهما لا يتغيران، والفتوى إن صدرت بناء على مراعاة للأصول وموافقة للظروف والوقائع التى قيلت بها فإنها سليمة تبقى على ما هى عليه كجزء من فقه الواقع، ولكنها تستبدل وتتغير بفتوى جديدة حينما تؤسس على واقع مختلف وأحوال جديدة ،مضيفا : والاجتهاد فرض كفاية فى النوازل، ومندوب إليه في كل حال، والاجتهاد هو إعمال العقل والتجديد فى الفكر والمنهج، بالإضافة والمرونة والانتقال من أصل إلى آخر، ومراعاة المآلات وتحقيق المقاصد، والتجديد يكون بالارتباط بالأصول وتطبيق الأحكام على الوجه الذى يحقق مصالح العباد فى المعاش والمعاد.
واستطرد ؛ الاجتهاد يكون ببذل الفقيه جهده فى استنباط الحكم المناسب والملائم للوقائع المتجددة من الأدلة الشرعية والنصوص، وهذا أمر مستمر يمثل واجب الوقت بالنسبة إلى فقهاء كل عصر، أما أن يفكر علماء عصر أن يعيشوا عالة على مجهودات واجتهادات من سبقهم يلوكونها ويرددونها ويفرضونها على وقائع متغيرة متجددة وظروف وأحوال وأشخاص مختلفين فهذا لون من الكسل، ونمط من التفريط والتخاذل عن نصرة الشريعة وإحيائها.
وتابع : هناك من العلماء من يقف أمام دعوى التجديد ويرفضها لمجموعة من الدعاوي، منها أن علم الأصول قد كمل واكتمل ولم يعد فيه مجال للتجديد، ونحن نرد على هذه الدعوى ونؤكد على حاجة علم الأصول للتجديد والإصلاح في الشكل والجوهر وقابليته أيضا لذلك التجديد، ولكنا نحتاج إلى تحديد آلية ذلك التجديد ووضع ضوابطه، ولا يصح لهم أن يتخذوا من انحراف المنحرفين الذين اتخذوا من دعوى التجديد طريقا لهدم الدين والتفلت منه ذريعة للوقوف أمام التجديد بالكلية.
وأوضح الدلائل التي تشير إلى حاجة الأصول إلى التجديد هو ما نلقاه من تخبط بعض المتصدرين للفتوى ـ ممن ليسوا لها أهلا ـ وقصورهم عن تلبية حاجة عصرهم، وتقديم الاجتهادات المناسبة لحل المشكلات المستجدة، فبعضهم توقف عند اجترار المسائل القديمة التي ضاقت بها الأحوال والظروف الحالية، ويردد أقوال محصورة داخل دائرة زمانية ضيقة، لا يسع الإنسان المسلم المعاصر أن يعيش فيها ويتمسك بها، وبعضهم الآخر يخرج على الثوابت ويطعن فيها تشكيكا وتفلتا.
واوضح ان الحفاظ على اللغة العربية من الحفاظ على الدين، إذ لا يمكن فهم القرآن والسنة إلا بها، كما أن إضعافها وعدم إتقانها إضعاف للدين، وقوة اللغة في أمة ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم؛ لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم.
واللغة معيارية وليست نسبية، وبعض مدارس ما بعد الحداثة تغالي وتنادي بنسبية اللغة وأن السامع يحملها على ما يشاء من مدلولات ومعان، ولا يتقيد بوضع اللغة، فيفهم السماء على أنها مثلا الرجل والأرض المرأة أو الفرس، وهكذا ،فإذا اختلف حمل السامع للفظٍ ما، عن استعمال المتكلم له، عن وضع الواضع له؛ كان ذلك انهيارا للتواصل البشري.
وأضاف أن الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع، بعد الكتاب والسنة اللذان استقرت حجيتهما لدى المسلمين، فإن كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحتمل دلالتها تأويلات مختلفة، فكان لا بد من أداة تضبط هذه التأويلات، بحيث لا يُحْمَلُ النص على غير المراد منه حقيقة، فكان الإجماع، وبه يتحول الظني إلى قطعي، فأغلق الباب والمجال أمام زيغ المحرفين وبدع المشككين الذين يحيدون بالنصوص عن الوجه المراد منها.
الإجماع ينقل مدلول النص إلى القطعية، والإجماع ليس منشئًا للحكم الذي ينشئه الكتاب والسُّنة، إلا أنه كاشف للحكم بدليل من الكتاب والسُّنة، يلزم من هذا الدليل ثبوت الحكم أو نفيه، حتى لا يكون هناك سبيل لأصحاب الأهواء للعبث بأسس الدين وقواعده.
فالإجماع حصن هذا الدين الحصين، وسوره المنيع، وهو الذي وقف في وجه أصحاب الشهوات والأهواء، وردهم على أدبارهم، فلم يستطيعوا لهذا الدين كيدا، ولم يجدوا لمآربهم وشهواتهم سبيلا ،ومخطئ من ظن أن الإجماع حائل أمام الفكر والاجتهاد والإبداع؛ لأن الإجماع الحقيقي إن صح لا يصطدم مع الاجتهاد بل يعين عليه ويضبطه، ولكن قد يخطئ بعض الفقهاء فينسب إلى الإجماع ما ليس داخلا فيه، فيحجر بذلك على التجديد وعلى مسايرة الواقع والقيام بواجب الوقت.
وتابع : أن يفتي المفتي هكذا دون نظر إلى الواقع، ومراعاة المآلات واعتبارها، قد تؤدي فتواه إلى هدم الواقع، وترتيب المفاسد وضياع المقاصد، وهذا عين الجهل، فإن الحكم في أرض الواقع له مقاصد وهي تحقيق مصالح العباد، فإن وجد المفتي أن فتواه سيترتب عليها من المفاسد والضرر أكبر بكثير مما يرجوه من المصالح أحجم، لأن الشريعة كما اعتبرت حفظ الدين والمحافظة على الشريعة اعتبرت مصلحة النفس والعرض والمال والعقل.
ويحتاج المفتي إلى ميزان دقيق يقيم به الأمور ويضعها في نصابها، وهذا الأمر لا يعيب المفتي أو يقدح فيه، بل يعلي شأنه ويرفع قدره، فليس المفتي من يعنت الناس ويتشدد عليهم ويضيع مصالحهم باسم الشرع، والشرع ما جاء إلا لسعادة الإنسان وتيسير معيشته.
وهناك نماذج عديدة في أمور استجدت كان الحكم والفتوى فيها مستندًا إلى مآلتها، ومن ذلك:شرب القهوة: القهوة من المشروبات الحديثة، اكتشفه رجل يمني عن طريق الصدفة، استساغه ووجد له تأثيرا في قوة الانتباه وزيادة التركيز، فأطلق عليه قهوة الصالحين لمساعدته على العبادة والذكر ليلا.
وأما القهوة في المعاجم العربية القديمة فهي تعني «الخمر»؛ ولذلك أضاف لها لفظ الصالحين تمييزًا لها عن الخمر المحرم، وعندما وصل نبات القهوة إلى مصر والحجاز صار اسمها قهوة فقط، فذهب الناس إلى أحد المشايخ ليسألوا عن حكم شرب القهوة، فنظر لها من منظور لفظي فقط لا علاقة له بإدراك الواقع، وقال بأن القهوة «خمر»، وصدرت الفتوى أن القهوة حرام.
وكانت تشرب في الحجاز واليمن، ولما عرف الفقهاء في مصر أن لها تأثيرا مغايرًا لتأثير الخمر التي تذهب العقل، حسم الأزهر الشريف الخلاف فيها وأفتى بحلها بناء على إدراك حقيقتها وبعيدا عن مجرد اللفظ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، واتبع أحد علماء الأزهر التجربة لمعرفة أثرها على الإنسان فجمع عشرة من طلابه وأعد لهم القهوة وجلس يتدارس معهم العلوم فوجد أنها تعمل على زيادة النشاط والتركيز والانتباه، ولا علاقة بينها وبين الخمر المحرمة إلا في الاسم فقط.
وكذلك التصوير الفوتوجرافي: إنه نموذج على الخطأ في الفتوى نتيجة عدم إدراك الواقع، وعدم مراعاة المآلات، فقد أفتى أول الأمر بحرمة «التصوير الفوتوجرافي»؛ استنادًا إلى فهم خاطئ لما رواه الإمام البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ».
ولكن الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية ألف كتابا في إباحتها سماه «الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي»، وبين للفقهاء حقيقته فهو عبارة عن احتباس الظل، كالمرآة إذا وقفت أمامها ورأيت صورتك، وبين أنه لا حرمة فيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة