سر غريب هذا الذى يجعله رمزا للسعادة حتى وإن كانت نهايته حزينة، سر يجعله يعبر الزمن والأجيال لتتسلل محبته إلى قلوب لم تره أو تعاصره، وعلى الرغم من أنه ظهر بين عمالقة الفن والطرب والموسيقى الذين تعلقت به قلوب الملايين، إلا أنه يبقى لاسم جميل الروح محمد فوزى وقع ومكانة مختلفة فى القلوب.
جمال الروح هو سر بقاء فوزى ومحبته ومكانته، جمال الروح الذى ميز فنه وألحانه وتمثيله وغناءه، جمال الروح الذى يبقى بعد تعب الجسد وغيابه، روح نقية كأرواح الأطفال الذين غنى لهم فكان أصدق وأجمل من عبر عنهم، روح تحمل محبة عاشق صادق تستطيع أغانيه وألحانه الوصول إلى قلوب كل العاشقين والمحبين بلا حواجز، عاشق للوطن يغنى له بقلب ولسان فدائى فلا يمجد اسما غيره، لذلك بقيت أغانيه تتردد حتى فى أوقات المحن والشدائد «وطنى أحببتك ياوطنى حبا فى الله وللأبد»، وبنفس الروح كان أقدر من لحن شعر مجاهدى الثورة الجزائرية لتصبح نشيدا وطنيا للجزائر يتردد حتى الآن، وأمر الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة بإطلاق اسمه على المعهد الوطنى العالى للموسيقى بالجزائر، فضلا عن منحه «وسام الاستحقاق الوطنى» بعد وفاته.
فوزى هذا الطيف الجميل الذى زار الدنيا سنوات قليلة لم تتجاوز 48 عاما ورحل عن عالمنا منذ أكثر من نصف قرن فى مثل هذا اليوم الموافق 20 أكتوبر من عام 1966، ولكنه سبق عصره وعصورا بعده، وخلد اسمه ليبقى بيننا رغم الغياب باقيا رغم الرحيل، يعيش إبداعه وتعشقه كل الأجيال حتى قيام الساعة.
عبقرى التلحين والغناء الذى أبدع فى كل ما غنى ولحن، لا تصدق أن من لحن وغنى «وطنى أحببتك يا وطنى حبا لله وللأبد» هو نفسه من جعل كل الأطفال يرددون «ماما زمانها جاية، وذهب الليل»، وغنى للمحبين «تملى فى قلبى يا حبيبى، وحبيبى وعنيا، ومال القمر ماله، وتعب الهوى قلبى».
إبداعات وروائع لا تعد ولا تحصى لفنان فوق العادة، عبقرى استطاع أن يلحن حتى بدون آلات موسيقية، فيكفى أن تسمع أغنية «كلمنى طمنى» التى لحنها فوزى دون أى آلة موسيقية وتحدى فيها نفسه لتكون أول لحن فى التاريخ ولعله اللحن الوحيد الذى استبدل أصوات الآلات بأصوات البشر.
هذا الجميل العبقرى محمد فوزى عبدالعال الحو الذى ولد فى 15 أغسطس 1918 فى قرية كفر أبو جندى بمركز قطور محافظة الغربية، الابن الحادى والعشرين من أصل خمسة وعشرين ولداً وبنتاً، منهم المطربة هدى سلطان، عشق الفن والموسيقى منذ صغره وتعلم أصولها على يد محمد الخربتلى أحد أصدقاء والده، الذى كان يصحبه للغناء فى الموالد والليالى والأفراح، وهجر بلدته الصغيرة وجاء إلى القاهرة هائما فى عشق الموسيقى رغم رفض والده، وعانى الفقر والجوع، تنقل بين الملاهى والفرق حتى وصل إلى صالة بديعة مصابنى، وهناك تعرف على فريد الأطرش، ومحمد عبد المطلب، ومحمود الشريف، واشترك معهم فى تلحين الاسكتشات والاستعراضات.
تقدم فوزى وهو فى العشرين من عمره إلى امتحان الإذاعة ونجح ملحنا بينما رسب كمطرب، وتعرض لعدد من الإحباطات فى بداية حياته، حتى سنحت له الفرصة للتمثيل فى أول أدواره عندما ساعدته الفنانة عقيلة راتب للمشاركة معها ومع العملاق يوسف وهبى فى فيلم «سيف الجلاد»، وظهر فوزى فى هذا الفيلم لأول مرة دون أن يغنى، وبعدها عرفت عقيلة راتب بمواهبه فى التلحين والغناء فرشحته أمامها لبطولة فيلم «عروس البحر»، وغنى معها فوزى أول دويتو فى حياته فى أغنية «صيد العصارى»، وقام بتلحين أغانى الفيلم.
وخلال ثلاث سنوات استطاع فوزى التربع على عرش السينما الغنائية والاستعراضية، وقام ببطولة عشرات الأفلام، وأسس شركة للإنتاج السينمائى، وأذيعت أغانيه فى الإذاعة التى رفضت إجازته من قبل، وفرض نجاحه عليها بأغانيه المتنوعة التى حققت جماهيرية واسعة.
دخل فوزى القلوب بطلته وابتسامته وخفة روحه كممثل، وأبدع فى كل ألوان الغناء والتلحين، مزج بين البساطة والإبداع، اليسر والعبقرية، قدم السهل الذى يصل إلى كل القلوب ويرسخ فى الوجدان، الممتنع الذى يستعصى على غيره تقديمه، أحب فوزى كل ما قدمه فأهدانا أعمالا ممزوجة بروحه ومحبته وعبقريته وبساطته، الوطنى والعاطفى والدينى وأغانى المناسبات ومنها «هاتوا الفوانيس يا ولاد» و«إنتى يا أمى»، كما أبدع فى أغانى الفرانكوآراب ومنها لحن «يا مصطفى» الذى أصبح أيقونة فى الموسيقى العالمية وتم استخدامه فى أغانٍ كثيرة بكل أنحاء العالم، ولحن عشرات الألحان التى حققت نجاحا واسعا لزملائه من عمالقة الطرب، ومنها ساكن فى حى السيدة لعبدالمطلب.
فوزى هذا الراقى الخلوق جميل الروح الذى لا يعرف سوى الحب، فلا يحقد ولا يكره ولا يتآمر، يعشق الفن فيشجع الموهوبين ويساعدهم ويؤثرهم على نفسه، هكذا فعل مع بليغ حمدى فآثره على نفسه وقدمه لأم كلثوم حين سمع منه لحن «حب إيه»، وزكاه مرة ثانية ليلحن لها أغنية «أنساك» التى كان مقررا أن يلحنها فوزى لكوكب الشرق ولكنه حين سمع بليغ يدندن بها رشحه مرة ثانية ليلحنها لأم كلثوم بدلا منه، ومات جميل الروح دون أن يحقق حلمه بالتلحين لكوكب الشرق.
أسس عبقرى التلحين والغناء شركة مصرفون لإنتاج الأسطوانات، وهى أول شركة أسطوانات مصرية، وكان تأسيسها ضربة قاصمة لشركات الأسطوانات الأجنبية التى كانت تبيع الأسطوانة بتسعين قرشاً، بينما كانت شركة فوزى تبيعها بخمسة وثلاثين قرشاً، وأنتجت شركته أغانى كبار المطربين فى ذلك العصر مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما.
كانت الضربة القاصمة لفوزى والتى ربما كتبت نهاية حياته، عندما تم تأميم شركة مصرفون عام 1961، وتعيينه مديراً لها بمرتب 100 جنيه، الأمر الذى أصابه باكتئاب حاد كان مقدمة رحلة مرضه الطويلة، حيث أصيب بمرض سرطان العظام الذى لم يكن معروفا وقتها وسمى باسمه «مرض فوزى»، وعانى معاناة شديدة مع المرض حتى نقص وزنه بشدة من 90 كيلو إلى 37 كيلو.
كان فوزى متصالحا بسيطا حتى فى التعامل مع آلامه المبرحة، متصالحا حتى مع الموت فكتب قبل وفاته بساعات، كتب فوزى كلمات يودع فيها، وكتب رسالة يقول فيها: «منذ أكثر من سنة تقريبًا وأنا أشكو من ألم حاد فى جسمى لا أعرف سببه، بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التى أجريت لى، كل هذا يحدث والألم يزداد شيئا فشيئا، وبدأ النوم يطير من عينى واحتار الأطباء فى تشخيص هذا المرض، كل هذا وأنا أحاول إخفاء آلامى عن الأصدقاء إلى أن استبد بى المرض ولم أستطع القيام من الفراش وبدأ وزنى ينقص، وفقدت فعلا حوالى 12 كيلو جرامًا، وانسدت نفسى عن الأكل حتى الحقن المسكنة التى كنت أُحْقَن بها لتخفيف الألم بدأ جسمى يأخذ عليها وأصبحت لا تؤثر فىّ، وبدأ الأهل والأصدقاء يشعروننى بآلامى وضعفى وأنا حاسس أنى أذوب كالشمعة»، وودع فوزى جمهوره ومحبيه، مستسلما للموت راضيا مرضيا، ليقول: «إن الموت علينا حق إذا لم نمت اليوم سنموت غدًا، وأحمد الله أننى مؤمن بربى، فلا أخاف الموت الذى قد يريحنى من هذه الآلام التى أعانيها، فقد أديت واجبى نحو بلدى وكنت أتمنى أن أؤدى الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، تحياتى إلى كل إنسان أحبنى ورفع يده إلى السماء من أجلى، تحياتى لكل طفل أسعدته ألحانى، تحياتى لبلدى، أخيرا تحياتى لأولادى وأسرتى».
وطلب دفنه صباح اليوم التالى الذى كان موافقا يوم جمعة، وبالفعل توفى فوزى بعد ساعات من كتابة هذه الرسالة فى 20 أكتوبر 1966، عن عمر ناهز 48 عامًا.
رحم الله المبدع جميل الروح الذى أمتعنا وكان كشمعة ذابت لتضىء سماء الفن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة