"لم نعد نريدها فى البيت الأبيض".. هكذا قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى حوار تلفزيونى، يوم الإثنين الماضى، فى إشارة إلى صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، ليتخذ القرار صبغة رسمية بعد التصريح بأيام قليلة، عبر إلغاء الاشتراك، ليس فقط فى الصحيفة المذكورة، ولكن ليمتد ليشمل أيضا صحيفة "واشنطن بوست"، وهى الصحف التى طالما كانت مرجعا رئيسيا للعديد من التقارير المنشورة والمرئية فى العديد من المنابر الإعلامية، ليكون القرار بمثابة إعلان حرب من قبل الإدارة الأمريكية، ضد الصحافة، فى ظل المعركة الشرسة التى شنها قطاع كبير من الصحف فى الولايات المتحدة لاستهداف سيد البيت الأبيض، منذ ما قبل تنصيبه، فى يناير 2017، بسبب توجهاته التى تبدو مختلفة جذريا عن أسلافه، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين.
ولعل القرار ليس مفاجئا بالنسبة لقطاع كبير من المتابعين، سواء فى الولايات المتحدة أو غيرها، حيث كانت العديد من المنابر الإعلامية الأمريكية، محلا للانتقاد اللاذع من قبل الرئيس ترامب منذ حملته الانتخابية فى عام 2016، بسبب مواقفها التى بدت متحيزة إلى حد كبير، لصالح منافسته الديمقراطية آنذاك هيلارى كلينتون، وهو ما بدا واضحا، فى ذلك الوفت، فى كافة الاستطلاعات التى نشرتها، والتى كانت دائما ما تظهر تفوق كلينتون، على اعتبار أنها تحمل خبرة سياسية كبيرة، سواء بمنصبها السابق كوزيرة للخارجية فى الفترة الأولى من ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، أو قبل ذلك كسيدة أولى فى عهد زوجها بيل كلينتون، بينما استمر هجوم تلك المنابر بعد ذلك بعد صعوده إلى سدة السلطة إلى حد اتهامه بالخيانة لصالح روسيا، فى الوقت الذى أسهبت فيه فى الترويج لفكرة عزله، على خلفية قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتى قوضها تحقيق مولر الذى برأ الرئيس الأمريكى من تلك الاتهامات، كما استمرت على نفس النهج عبر دعم حملة الديمقراطيين الأخيرة ضده، على خلفية ما أثير حول مكالمته مع نظيره الأوكرانى والتى دارت حول التحقيق فى مزاعم تتعلق بأنشطة مشبوهة لنجل المرشح الديمقراطى للانتخابات الرئاسية القادمة جو بايدن.
إعلام متحيز.. ترامب يحارب بـ"تويتر"
يبدو أن معركة ترامب مع الإعلام بدأت منذ اللحظة الأولى لدخوله البيت الأبيض، حيث كان موقع التواصل الاجتماعى "تويتر" بمثابة السلاح الأول الذى لجأ إليه، عبر تفنيد التقارير التى تنشرها بعض المنابر الإعلامية، وعلى رأسها الصحف التى طالها قرار البيت الأبيض مؤخرا، واصفا إياها بـ"الكاذبة"، حيث اعتبر الرئيس الأمريكى أن حسابه على "تويتر"، هو بمثابة الوسيلة الأكثر رواجا، التى يمكنه من خلالها التواصل مباشرة مع المواطن الأمريكى، بالإضافة إلى لهجته الحادة التى طالما تبناها فى مؤتمراته الصحفية، فى التعامل مع مراسلى تلك الصحف، فى محاولة صريحة لإحراجهم أمام الرأى العام.
ترامب هاجم العديد من المنصات الإعلامية عبر تويتر
إلا أن القرار الأخير يبدو مرتبطا إلى حد كبير بما يمكننا تسميته بـ"دواعى الأمن القومى" للولايات المتحدة، خاصة مع انتقاد الصحف المذكورة المتواتر لقراراته الأخيرة، سواء المتعلقة بالانسحاب الأمريكى من سوريا، بالإضافة إلى سعيها إلى تأجيج الحملات المطالبة بعزله على خلفية أزمة نجل بايدن، وهو الأمر الذى يراه ترامب مؤججا للفوضى فى البلاد، حيث سبق وأن حذر من تداعيات الحملات المناهضة له عدة مرات، مؤكدا أن تلك الأفعال من شأنها وضع البلاد على حافة الهاوية، بالإضافة إلى مواقفه السابقة من قضايا تراها الإدارة ترتبط بصورة كبيرة بأمن المواطن الأمريكى، وعلى رأسها قضية تمويل الجدار العازل على الحدود مع المكسيك، والتى يعتبره البيت الأبيض أولوية قصوى لاحتواء ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وما يترتب على ذلك من تداعيات، وعلى رأسها ارتفاع معدل الجرائم فى العديد من المناطق.
الانضباط الإعلامى.. تحذيرات ترامب تحولت إلى إجراءات
قرار ترامب بشأن الصحف الأمريكية ذائعة الصيت يعد بمثابة الخطوة الأولى فى تحقيق ما أسماه الرئيس الأمريكى من قبل بـ"الانضباط الإعلامى"، حيث أطلق تغريدات فى أكتوبر 2018، كانت بمثابة طلقات تحذيرية للمنصات الإعلامية، وذلك فى أعقاب حادث الهجوم على المعبد اليهودى، تزامنا مع حوادث الطرود المفخخة التى استهدفت عددا من الساسة الأمريكيين، وهى الحوادث التى أطلق فيها الإعلام الأمريكى بشأنها سهام الانتقاد على النهج الذى تبناه الرئيس الأمريكى، والذى حمل الإعلام، من جانبه، مسئولية الزيادة الكبيرة فى جرائم الكراهية التى يشهدها المجتمع الأمريكى بسبب التقارير التى وصفها بـ"المغرضة وغير الدقيقة، والتى تهدف فى الأساس إلى تشويه صورة الإدارة الأمريكية الحالية.
ترامب فى مشادة مع مراسل أحد المنابر الإعلامية فى مؤتمر صحفى
ولم تتوقف تصريحات ترامب التحذيرية للإعلام الأمريكى على مجرد دعوته للانضباط، ولكنها امتدت إلى الحديث إجراءات تخطط الإدارة لاتخاذها، من بينها تأسيس وكالة من شأنها إظهار "عظمة الولايات المتحدة"، على حد تعبيره، وهو الأمر الذى يبدو جديدا تماما فى الأعراف الأمريكية، حيث يبقى الإعلام بعيدا عن الجهات الرسمية، فى إطار مبادئ الحرية والديمقراطية، والتى طالما تشدقت بها الولايات المتحدة لعقود طويلة، بل وجعلت منها ذريعة للتدخل فى شئون الدول الأخرى.
الخطاب الإعلامى.. حلقة جديدة فى مسلسل "المعركة"
وهنا يمكننا القول بأن ثمة علاقة قوية بين الخطاب الذى تتبناه المنصات الإعلامية من جانب، والجرائم المرتكبة تحت غطاء حرية الإعلام، ومسألة الأمن القومى الأمريكى، وصورة أمريكا أمام العالم من جانب آخر، وبالتالى فهناك حاجة ملحة إلى إجراءات فعلية يمكن من خلالها احتواء الحملات الإعلامية المسيئة أو المحرضة، والتى من شأنها زيادة معدلات الجرائم، أو تشوية صورة بلاده أمام العالم، وهو الأمر الذى أعرب عنه صراحة فى أكثر من مناسبة، حيث سبق له وأن اتهم شبكة "سى إن إن" الشهيرة بأنها تقوم بدور رئيسى فى إظهار صورة مغلوطة للولايات المتحدة أمام العالم.
قرار البيت الأبيض بمنع الوكالات الفيدرالية من الاشتراك فى صحيفتى "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، هو بمثابة حلقة فى مسلسل "المعركة" بين الإدارة الأمريكية الحالية، والمنصات الإعلامية التقليدية فى أمريكا، ربما لن تكون الأخيرة، فى ظل توقعات بقرارات أخرى ربما تدفع نحو فرض المزيد من الرقابة على الإعلام فى المرحلة المقبلة، خاصة وأن رؤية ترامب تقوم فى الأساس أن الإعلام يمثل جزءا رئيسيا من أدوات واشنطن الدبلوماسية، فى ظل استخدامه فعليا من قبل العديد من القوى الدولية، سواء لتقديم رسائل معينة، أو حتى للحشد لتحقيق أهداف بعينها.