فى كنيسة عتيقة بقلب شارع رمسيس، يواظب الأنبا أشود مناتسكانيان مطران الأرمن الأرثوذكس، على ترأس صلوات القداس باللغة الأرمينية كل أحد، بينما تمتلئ ساحة الكنيسة الخارجية ومقاعدها الداخلية بالعائلات الأرمينية التى تحرص على الصلاة فى كنيسة تنطق بلغتها الأرمينية الأم، وتداعب فى أرواح المصلين الحنين إلى الماضى، حين جاء الأرمن إلى مصر عقب الحرب العالمية الأولى بعد أن نفذت الدولة العثمانية جريمة الإبادة الجماعية اضطر بعدها الأرمن للهجرة إلى عدة دول أبرزها سوريا ومصر.
المطران الأرمينى الشاب الذى يبلغ من العمر 46 عامًا، يعمل أيضا رئيسا للجالية الأرمينية فى مصر فهو من ناحية المدبر الروحى للطائفة ومن ناحية أخرى يرعى شئونها الإدارية ويمثلها أمام الجهات الرسمية، إذ تتمتع الطائفة الأرمينية بوضع قانونى فريد فى الدولة المصرية فهى مسجلة قانونا كطائفة دينية وليست جالية أجنبية ومن ثم يرأس الجالية مطران الأرمن الأرثوذكس.
يقول المطران باللغة الأرمينية مستعينا برافي مترجمه الذى يتحدث اللغتين بكفاءة إن مجلس مللى للطائفة يتشكل من 24 عضوًا وهو استشارى وتشريعى، وننتخب سبعة آخرين كمجلس تنفيذى، ولدينا مجلسان الأول فى القاهرة والثانى فى الإسكندرية، والمطران يرأس المجلسان ويدعو للاجتماعات وينفذ ويتابع ويشرف على تنفيذ القرارات من خلال موظفى البطريركية.
يؤكد المطران أشود أن تعداد طائفة الأرمن الأرثوذكس يبلغ 7 آلاف نسمة موزعين على القاهرة والإسكندرية، يخضعون لقوانين الكنيسة إذ يحظى مطران الأرمن الأرثوذكس بعلاقات جيدة مع باقى الكنائس ووفقا لما يقوله كل الكنائس تعتبر أسرة مسيحية واحدة، ونتبادل الزيارات فى المناسبات مع كل الطوائف، لأن هناك قضايا وإشكاليات مشتركة، ونستفيد من خبرات بعضنا البعض، وبهذه الطريقة نحافظ على العلاقات بيننا.
يحرص الشعب الأرمنى على الحفاظ على هويته وثقافته، يوضح المطران أشود ويدلل على ذلك قائلًا: فى كل دولة هاجر لها الأرمن يبدأون ببناء كنيسة، ثم جوارها يبنون مدرسة وبعدها أندية اجتماعية ورياضية وثقافية وهو عرف وتقليد ارتبط بكل الدول التى عاش فيها الأرمن، فى مصر لدينا مدرسة عمرها 160 سنة، ونعلم أطفالنا اللغة فى مدارس الأحد اللصيقة بالكنيسة، والقداس يصلى باللغة الأرمينية وكل المخاطبات والاجتماعات الكنسية باللغة الأرمنية، وكلها محاولات للحفاظ على الهوية، وحاليًا لدينا مدرسة فى القاهرة وأخرى فى الإسكندرية وأندية ثقافية ورياضية وجمعيات خيرية، وكافة أعضاء الجالية يتطوعون فى تلك الجمعيات، لأن الهدف هو أن نعمل معًا ونحافظ على هويتنا الآن وفى المستقبل.
وعن علاقة الجالية بمصر بالوطن الأم فى أرمينيا يقول: نحافظ على الروابط بالوطن الأم، ولا نقطع تلك الصلة حتى لا تذوب هويتنا، لذلك ننظم زيارات تعليمية بين طلبة المدارس أو الأندية، والفرق الرياضية تشارك فى بطولات هناك، والكورال يشارك فى احتفالات، وهناك مهرجانات تنظم سنويًا لتجمع أرمن المهجر هناك فى ريفان، مضيفا: "نحن مصريون أرمن، ولسنا أرمن مصريين".
المطران الذى يحمل الجنسية المصرية يقول: نحن مصريون لنا واجبات وعلينا حقوق وفى كل الدول التى عشنا فيها بعد المذبحة الأرمينية خلقنا نهضة ثقافية وتنموية إذ كان نوبار باشا رئيس الوزراء المصرى الشهير من أصول أرمينية وقد لعب دورا بارزا فى تنمية مصر فى عهده عملا بواجبه كمواطن مصرى فى موقع المسئولية، مستكملًا: الشعب المصرى احتضن الأرمن، وإلى اليوم منحونا الفرصة والحرية كى نعيش معهم فصرنا جزءا من البلد.
ويرى المطران أشود أن الجالية استطاعت أن تبنى كنائس ومدارس ووصل أعضائها للمناصب، وذلك بفضل المعاملة الطيبة من المصريين والحكومات المصرية المتتابعة، ويضيف: مصر قدمت لنا الكثير ووقفت إلى جوارنا، فهى لم تدع حياة الأرمن تنتهى فى بلادهم بل سمحت لهم باستمرار الحياة فى مصر
ويستكمل رئيس الطائفة الأرمينية فى مصر: نعيش تحت إشراف ورعاية الحكومة المصرية، لم نطلب بناء كنائس جديدة بعد صدور قانون بناء الكنائس الأخير بل نكتفى بما لدينا، ولا نعانى من أى مشاكل تتعلق ببناء الكنائس أو تقنين أوضاعها، لكن علينا أن نعترف أن الدولة تلبى احتياجاتنا فى ثانية وتقدم لنا دعمًا كاملًا، وفى أى مرة طلبت مطالب من الدولة نفذت بسرعة كبيرة دون أى عوائق تذكر
واستكمل: كان لدينا صحف يومية تصدر باللغة الأرمينية، ومثقفون وكتاب كبار حتى قامت ثورة يوليو عام 1952 وشعر الأرمن أن وضعهم سيئ فى مصر ولم يحصلوا على الجنسية المصرية فقرروا الهجرة إلى أرمينيا أو استراليا وكندا.
أما الأنبا كريكور كوسا مطران الأرمن الكاثوليك الضلع الثانى للأرمن المصريين، يقول أن تعداد طائفة الأرمن الكاثوليك 6500 شخص، ونحن مسجلون كبطريركية الأرمن الكاثوليك بمصر وأفريقيا، والطائفة مسجلة رسميًا لدى الدولة، ويساهم أبناؤها منذ سنوات فى نهضة هذا البلد حتى أن يعقوب أرتين باشا مؤسس جامعة القاهرة من أبناء الطائفة، وكانوا دائمًا يتوقون للعمل ونهضة مصر والحفاظ على ثقافتها وارتباطها بالبلاد الأخرى، أما اليوم - يشير كوسا - ليس لدينا مسئولين فى الدولة لكن علاقتنا بهم لا تنقطع، فالرئيس يرسل لنا برقيات تهنئة ويوفد من يهنئنا بأعيادنا.
يعود كوسا للتاريخ ويقول: كانت أعدادنا كانت تزيد عن الـ120 ألف نسمة فى القرون الماضية بعد بدء عصور الإبادة التركية للأرمن وبداية هجرتنا لمصر، ويستكمل: فتحت مصر قلبها لنا قبل أن تفتح بيوتها، لكن الهجرة من مصر قللت عددنا حتى وصلنا إلى 12 ألف أرمنى ننتمى لكنيستين الكاثوليك والأرثوذكس، وحين كان العدد كبيرًا كان الأرمن يتزوجون ببعضهم البعض، أما الآن وبعد انحسار العدد تزاوج الأرمن بالمصريين.
ويشير كوسا إلى أن هناك تحسنا ملحوظا فى الأوضاع فى مصر، ويضيف الرئيس ليس معه عصا سحرية ليغير بين لحظة وضحاها، وعلينا أن نعمل معه من أجل ازدهار الوطن ونهضته واستقراره.
من الهجرة إلى الاستقرار فى مصر.. تاريخ الجالية الأرمينية
يؤرخ كتاب بعنوان الأرمن فى مصر: مساهمة من الأرمن إلى القرون الوسطى " لسونيا زيتليان، العلاقة بين المصريين والأرمن ويرجعها إلى عمق التاريخ حين كان للأرمن مساهمة كبيرة فى الاقتصاد والثقافة والعلوم فى مصر.
من بين أبرز الأسماء الأرمينية فى مصر خلال الفترة من العصر العباسي في القرن السابع إلى العصر العثماني في أوائل القرن التاسع عشر كل من الأمير علي بن يحيى أبو الحسن أرمانى حاكم مصر بين عامي 841 و849، والذي عين من قبل الخليفة العباسي، وبدر الدين الجمالي وهو مملوك من أصل أرمني استعان به الخليفة المستنصر الفاطمي في 1073 لمساعدته عندما ضعفت مصر بسبب الفتنة الداخلية و المجاعة والجفاف، وسنان باشا وهو المهندس المعماري للإمبراطورية العثمانية الذي قام ببناء المسجد التاريخي في بولاق، وسوق القاهرة للحبوب ، وحمام بولاق العام.
وشهد القرن التاسع عشر بداية نزوح موجات أرمينية إلى مصر، فشكلوا جالية كبيرة وارتبط هذا النزوح بشخص محمد علي وظروف حكمه حيث سمح لهم بالعمل بالحرملك كمترجمين واطباء، وأدار الأرمن الثروات الخاصة لأسرة العلوية.
وكانت مصر في القرن التاسع عشر وبداية العشرين مقصدا للمبدعين والتجار والأقليات العرقية والدينية بسبب تمتعها بحكم مستقل عن سيطرة الباب العالى فى اسطنبول. وكانت مصر خلال عهد محمد على باشا تشهد تطورا كبيرا واستقرارا أمنيا جعلها واحة لاستقرار عدد كبير من المبدعين والباحثين.
ويعتبر قتل الآلاف من الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى علامة فارقة فى تاريخ الجالية الأرمنية في مصر التي تلقت أعدادا كبيرة من اللاجئين فزادت أعدادهم في مصر حتى وصلت ذروتها في ما يظهره إحصاء 1927 من أن عددهم كان نحو 17 ألفا يتركز أغلبهم فى القاهرة والإسكندرية.
وتم إنشاء أول مدرسة أرمنية في مصر عام 1818وهي مدرسة يغيازاريان الدينية في منطقة بين السورين و نقلت عام 1854 إلى درب الجنينة و تغير اسمها إلى خورنيان على اسم المؤرخ الأرمنى موفسيس خوريناتسى.
و في عام 1904 نقل رجل الأعمال بوغوس نوبار المدرسة إلى بولاق، وفى 1907 أسس مدرسة كالوسديان فارجان الأرمنية التى ضمت أيضا روضة أطفال في شارع الجلاء فى وسط القاهرة.
وأسس بوغوس يوسفيان ثانى المدارس الأرمنية فى مصر فى 1890 في الإسكندرية، وساهم الأرمن فى مصر فى تطوير العديد من الصناعات بما في ذلك بناء السفن وصناعة النسيج والتبغ.
وصدرت أول صحيفة أرمنية فى مصر في عام 1865 وتدعى أرمافيني. وتبعها العديد من الصحف ليصل مجموعهم إلى 140.
واليوم هناك صحيفتان يوميتان: "هوسابير" التي تأسست في عام 1913 و "عارف" وتأسست فى عام 1915. وأيضاً هناك صحيفة أسبوعية تدعى "تشاهاجير" تأسست فى عام 1948، و ملحقاً شهريا من "عارف" باللغة العربية، و ملحق فصلي موسيقي من "تشاهاجير" تسمى "دزيدزيرناج".
والأرمن المصريون إما أرثوذوكس أو كاثوليك، ومن أشهر الشخصيات الأرمنية المصرية نوبار باشا وهو أول رئيس وزراء مصري ورسام الكاريكاتير صاروخان والفنانات فيروز ولبلبة وميمي جمال ونيللي وأنوشكا.
المذبحة الأرمينية.. دماء فى تاريخ الدولة العثمانية وورثتها الأتراك
الإبادة الأرمينية، وتعرف أيضًا باسم المحرقة الأرمنية والمذبحة الأرمنية أو الجريمة الكبرى، تشير إلى القتل المتعمد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل حكومة تركيا الفتاة في الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل والترحيل القسري والتي كانت عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين. ويقدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن بين مليون إلى 1.5 مليون شخص معظمهم من المواطنين بالدولة العثمانية.
ونُفذت الإبادة الجماعية أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعدها نُفذت على مرحلتين، القتل الجماعى للذكور ذوى القدرة الجسديَّة، من خلال المجزرة وتعريض المجندين بالجيش إلى السُخرة، ويليها ترحيل النساء والأطفال والمسنين والعجزة في مسيرات الموت المؤدية إلى صحراء سوريا، وبعد أن تم ترحيلهم من قبل مرافقين عسكريين، تم حرمان المرُحليّن من الطعام والماء وتعرضوا للسرقة الدورية، والاغتصاب والمجازر خلال هذه الفترة، تم استهداف ومهاجمة وقتل مجموعات عرقية أخرى.