يعترف عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى سيرته الرائعة «الأيام» بأنه حين استمع صوت «مى زيادة» للمرة الأولى «اضطرب له اضطرابا شديدا».. يتذكر أنه كان حاضرا فى الحفل الذى أقيم بدار الأوبرا يوم 24 إبريل عام 1913 تكريما لشاعر القطرين خليل مطران بمناسبة منحه وساما من الخديو عباس الثانى، واستمع إلى الكلمات وقصائد الشعراء، لكنه «لم يرض عن شىء مما سمع إلا صوتا واحدا، سمعه فاضطرب اضطرابا شديدا، أرق له ليلته تلك، كان الصوت عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ فيه خفقة إلى القلب، فيفعل فيه الأفاعيل، وكان صوت الآنسة مى التى كانت تتحدث للمرة الأولى للجمهور».
فاضت أحاسيس ومشاعر طه حسين على صوت مى عام 1913 حين كان فتى يسير على الأشواك مقاوما وقاهرا لكل الظروف، كى يصبح أبرز عمالقة الفكر العربى فى القرن العشرين ومازال، وفى يوم 4 ديسمبر عام 1941 تحدث هو عنها فى حفل «الاتحاد النسائى المصرى» برئاسة هدى شعراوى لتأبينها.. سبقه فى الحديث الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، والشيخ مصطفى عبدالرازق باشا وزير الأوقاف..«راجع، ذات يوم، 4 ديسمبر 2019».
«كانت كلمته من نفحات الأدب السامى» بوصف «سلمى الحفار الكزبرى»، فى مجلدها الثانى من كتابها «مى زيادة ومأساة النبوغ».. ألقى «حسين» كلمته بعد كلمة الآنسة عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ»، وكلمة الدكتور منصور فهمى مدير عام دار الكتب، ونشرت جريدة الأهرام كل الكلمات فى عددها الصادر يوم 5 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1941».
تذكر «الكزبرى»: «أن كلمة طه حسين تجلى فيها إعجابه بمى الأديبة التى كانت تمثل فى نفسه: «بداوة البادية،وحضارة الحاضرة، وثقافة العرب القدماء، وثقافة المحدثين والأوروبيين، وكل ما يتمنى المثقف أن يصل إليه».. تضيف «الكزبرى»: «سجل للفقيدة أثرها الكبير فى الأدب، وأثر ندوتها الأسبوعية فى تنشيطه، واهتمامها بفلسفة أبى العلاء المعرى وتشاؤمه وعزلته».
قارن طه حسين بين «مى» و«أبى العلاء المعرى».. قال: «وكلكم يعرف أن بؤس أبى العلاء إنما نشأ مما ألقى إليه من العلم، ومما ألم به من الحوادث فى أهله، وكلكم يعرف أن آخر عهد أبى العلاء بالحياة الاجتماعية العادية التى كان يلقى فيها الناس، ويتحدث إليهم ويشاركهم فى حياتهم إنما هو ذلك الوقت الذى توفيت فيه أمه، فمنذ ذلك الحين قطع الصلة بينه وبين هذه الحياة، وكذلك كانت حياة مى، فمنذ عرفت أبا العلاء تتبعت حياته ولكنها شاركت الناس فى حياتهم باسمة، مظهرة للرضا، مضمرة لعبوس شديد، وسخط متصل، ثم توفى أبوها فازداد حزنها وتشاؤمها، ثم توفيت أمها فانقطعت الصلة بينها وبين الناس، وإذا هى العزلة المرة التى لا يتخطاها الإنسان إلا بالجهد الشديد، والإلحاج المستمر.
وأسمع نعى مى، فلا أزيد على أن أعيد فى نفسى هذه الأبيات التى كنت أنشدها كلما لقيتها: «ألِمًا بميِ قبل أن تطرح النوى/بنا مطرحاً، أوقبل أن يزيلها/ فإن لايكن إلا تعلٌلٌ ساعة /قليلا، فإنى نافع لى قليلُها». ولكن هذه الساعة ستتصل منذ الآن فما أعرف أننا نلقى أحدا فنطيل اللقاء، وما أعرف شيئا أوُفى فى العشرة، وأحرص فى المصاحبة من الموتى إذا كانوا أعزاء على نفوسنا، وكانوا ينزلون فى قلوبنا، و«مى» فى قلوبنا، ولست فى حاجة لأن أنشدها هذه الأبيات، ولكنى سأذكرها كلما ذكرت «خليلى عدا حاجتى من هواكما، ومن ذا يواسى النفس إلا خليلها/ ألمًَا بمى قبل أن تطرح النوى/بنا مطرحا، أوقبل أن يزيلها/فإن لم يكن إلا تعلل ساعة/قليلا ،فِإنى نافع لى قليلها».
بعد كلمة طه حسين، ألقى الكاتب عباس محمود العقاد قصيدة طويلة عنوانها «آه من هذا التراب» ألقاها باكيا، ومن مقاطعها: «أين فى المحفل «مى» ياصحاب/عودتنا هاهنا فصل الخطاب/عرشها المنير مرفوع الجناب/مستجيب حين يدعى، مستجاب/أين فى المحفل «مى» ياصحاب/شيم غُرٌ رضيات عذاب/وحجى ينفذ بالرأى الصواب/وذكاء ألمعى كالشهاب/وجمال قدسى لا يعاب/كل هذا فى التراب؟ آه من هذا التراب».
ثم ألقى شاعر القطرين قصيدة طويلة على غرار قصيدة العقاد قال فيها: «أيهذا الثرى ظفرت بحسنٍ/كان بالطهر والعفاف مصونا/لهف نفسى على حجى عبقرىٍ/كان ذخرا فصار كنزا دفينا».. تذكر «الكزبرى»، أنه كان من خطباء تلك الحفلة الأستاذ مجدالدين حفنى ناصف، شقيق ملك حفنى ناصف «باحثة البادية»، فتحدث عن الصداقة التى نشأت بين مى وأخته ملك، ومن اللواتى ألقين كلمات مؤثرة فى حفلة التأبين، الدكتورة نعيمة الأيوبى، والمحامية عزيزة عباس عصفور، وألقى أنطوان الجميل كلمة شكر بليغة نيابة عن أفراد أسرة الفقيدة، واختتمت الحفلة بقطعة موسيقية عزفها أمير الكمان سامى الشوا كانت «مى» تطرب لسماعها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة