صليب معلق.. لم تمسسه النيران التى التهمت كاتدرائية نوتردام، فى الوقت الذى أكلت فيه الكثير من كنوزها، ربما ليعيد إلى الأذهان الكثير من القصص التى يزخر بها الإنجيل وتمتلىء بها الكتب المسيحية الأخرى، والتى يدور معظمها حول حماية الله لمقدساته ورجاله من الأبرار والقديسين، على غرار قصة "الفتية الثلاثة" الذين أنقذهم الله بعدما ألقاهم الملك الوثنى فى آتون النار لتمسكهم بإيمانهم، مما أثار الحديث عن المعجزة الإلهية، التى تجلت فى قلب الهيكل بالكاتدرائية العريقة، وما تحمله من رسائل سمائية إلى بلاد النور.
صورة الصليب الناجى من ألسنة اللهب، انتشرت بصورة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعى، ليبدأ الحديث عن المعجزة، حيث ظهرت أثار الحريق على جدران الهيكل المحيطة به، بينما كان الصليب صامدا فى الوسط، وكأنه معلقا فى الهواء، لتسقط عليه آشعة الشمس فيصبح وكأنه مشعا بالضوء، لتكتمل أركان المعجزة الإلهية، والتى تفتح الباب أمام حوارات أخرى، ربما حملت فى طياتها أبعادا أخرى تجاوزت فى الكثير منها المغزى الإيمانى الذى يروج له أنصاره، لتمتد إلى السياسة.
فرصة ذهبية.. حريق نوتردام يعيد الحديث عن هوية فرنسا المسيحية
يبدو أن الصورة المتداولة، بل وحادث حريق الكاتدرائية التاريخية بأسرها، كان بمثابة فرصة ذهبية لأصحاب الأجندات السياسية، للحديث من جديد عن الهوية المسيحية لفرنسا، وبالتالى إطلاق أسهم الانتقاد التى تستهدف السياسات التى يتبناها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ذو النزعة الليبرالية، فى إطار السعى نحو الحصول على مزيد التعاطف من المواطنين المتدينين فى المرحلة الراهنة، والذين أبدوا تأثرهم الشديد جراء حريق الكاتدرائية التاريخية، والتى تمثل أحد أهم معالم فرنسا التاريخية والدينية، والتى يرجع تاريخها إلى أكثر من 1500 عام من الزمان.
صليب نوتردام الناجى من ألسنة النيران
ففى تغريدة له، قال العضو البارز فى حزب الجبهة الوطنية اليمينى جان مسيحة أن "القادة الذين احتشدوا أمام الكاتدرائية للاستعراض أمام الكاميرات.. أمضوا السنوات الأربعين الماضية فى تدمير هويتنا وإنكار جذور فرنسا المسيحية". بينما علق السياسى الفرنسى البارز على صورة الصليب الناجى بقوله "فى وسط الليل هناك ضوء.. وفى ظل اليأس هناك أمل.. ووسط الدموع هناك فرح."
خطاب المعجزة.. اليمين يحول الغضب الشعبى نحو الدين
وهنا تبدو محاولات واضحة من قبل التيارات اليمينية فى فرنسا للقفز إلى مقاعد السلطة، عبر "المعجزة السمائية"، لتمثل حلقة جديدة من السعى المتواتر من قبل مثل هذه التيارات لاستخدام الدين فى تحقيق المآرب السياسية، فى الوقت الذى تحاول فيه تلك التيارات تأجيج الغضب الشعبى تجاه أداء الحكومات على مختلف الأصعدة، وعلى رأسها السياسات الاقتصادية، وتلك المتعلقة بالهجرة، والتى قامت على إثرها العديد من التظاهرات فى العديد من المدن الفرنسية بقياة حركة "السترات الصفراء".
الصليب
وعلى الرغم من أن المظاهرات التى اندلعت فى المدن الفرنسية منذ ديسمبر الماضى، حملت غطاءا اقتصاديا، على خلفية القرارات الإصلاحية التى اتخذها الرئيس إيمانويل ماكرون، والتى تضمنت زيادة الضرائب على الوقود، وهو الأمر الذى كان سيتسبب فى ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة حال تطبيقة، إلا أنها حملت فى طياتها أبعادا أخرى تجاوزت الأوضاع الاقتصادية، والدليل على ذلك أن المظاهرات لم تتوقف رغم التراجع الحكومى عن تلك القرارات، حيث ارتفع سقف المطالب بصورة كبيرة، لتصل إلى حد الدعوة إلى استقالة الرئيس وحل الجمعية الوطنية بالإضافة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبى، وهى المطالب التى تتوافق بصورة كبير مع أجندة التيارات اليمينية.
التصرف السريع.. تغريدة ترامب نصيحة أم اتهام؟
ولعل المفارقة المثيرة للانتباه أن أول سهام الانتقاد بحق ماكرون وحكومته لم تأتى من المعارضة الفرنسية بالداخل، ولكنها جاءت بصورة ضمنية على لسان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والذى كان أول من علق على الحادث، واصفا إياه بـ"الأمر المروع"، وذلك فى تغريدة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى "تويتر"، حيث دعا إلى استخدام طائرات ناقلة للمياه للمساعدة فى إطفاء الحريق، مؤكدا فى الوقت نفسه الحاجة الملحة للتصرف السريع.
لحظة سقوط برج الكاتدرائية الشهيرة
دعوة ترامب إلى ما أسماه بـ"التصرف السريع" لاحتواء الحريق المروع، والذى شهده أحد أبرز المعالم الباريسية، يمثل انتقادا ضمنيا للرئيس الفرنسى وحكومته، حيث أنه يحمل فى طياته اتهاما بالتقصير لحماية، ليس مجرد أثر تاريخى بارز، ولكن أيضا معلم مسيحى هام، يمثل انعكاسا للهوية الفرنسية، وهو ما يعد بمثابة محاولة أخرى لتأجيج شرارة الغضب بين القطاع المتدين فى فرنسا ضد الرئيس وحكومته فى لحظة تبدو مفصلية إلى حد كبير، خاصة وأن الحريق جاء فى الوقت الذى كان يستعد فيه الرئيس الفرنسى لإلقاء خطاب للشعب حول ما آلت إليه حواراته المجتمعية لاحتواء غضب "السترات الصفراء".
يبدو أن حريق كاتدرائية نوتردام كان فرصة جيدة لما يمكننا تسميتهم بـ"أعداء ماكرون"، ليضعوا المزيد من الضغوط على كاهله باستخدام سلاح الدين فى المرحلة الراهنة، وبالتالى تقويض كافة الجهود التى بذلها فى الأسابيع الماضية لاحتواء الغضب الشعبى تجاه سياساته، عبر الحوارات التى أجراها مع قطاعات مختلفة من المجتمع الفرنسى لتبرير توجهاته والرؤى التى يتبناها فى العديد من القضايا، والتى أثارت غضبا شعبيا عارما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة