الحياة فى مصر القديمة مليئة بالعديد من التفاصيل، لما تحمله من أسرار غامضة، فهل طرأ على بالك أو سمعت عن قدوم أحد الأشخاص فى مصر القديمة على الانتحار، أم لا توجد من الأساس أى حوادث انتحار فى ذلك الوقت، وللإجابة عن هذا السؤال تواصلنا مع عالم الآثار الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار فى مكتبة الإسكندرية.
قال عالم الآثار الدكتور حسين عبد البصير، إن الانتحار لم يكن معروفًا فى مصر القديمة على نطاق واسع، وقيل إن هناك فلاحًا مصريًا انتحر، والحقيقة أن هذا عمل أدبى يُطلق عليه "اليائس من الحياة"، وهو من النصوص الأدبية الجميلة والمهمة التى جاءت لنا من مصر القديمة، وهو عبارة عن حوار أدبى ذى مغزى فكرى ودينى وسياسى بين اليائس من الحياة وروحه، ولهذا الحوار صفة النزاع الكلامى والجدل الفكرى بين الذات المتمثلة فى الفرد الذى يأس من حياته نظرًا لانتشار الظلم والفساد فى العالم وبين الروح التى تسعى لإقناع الذات للإقدام على الانتحار حتى تتخلص من مساوئ هذا العالم المليء بالأزمات والفوضى.
وأوضح الدكتور حسين عبد البصير، أنه كان الواقع الاجتماعي الذى كان يعيش فيه ذلك الرجل ظالمًا، حيث ساءت أحوال الناس والبلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وانتشر الشر والفساد فى كل مكان ولم تعد لقيم الخير مكان عند الناس فقد قل الأمن والأمان والوفاء لدرجة أنه لم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه فالإخوة والأصدقاء أصبحوا أعداء لبعضهم، وغدت الثروة والنفوذ بيد الفاسدين الأشرار، لذلك فقد أراد ذلك الرجل أن يتخلص من حياته بحرق نفسه، لكن روحه عارضته وهددته بأنها ستهجره فى العالم الآخر.
وتابع الحسين عبد البصير، ولكنه أيضًا ومن خلال حواره مع روحه كان حريصًا على إرضائها وبقائها معه فأخذ يحاورها، وتحاوره وأخذت تخيره ما بين الرضا بالواقع والحياة معًا، أو الرضا بالموت والإقدام عليه، وكفت عن الحديث وامتنعت عن مناقشته، ولكن ما لبثت حتى عاود التفكير فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة، وبدأ يستدرجها فى الحديث أملاً فى أن تشجعه وتساعده فى اتخاذ قرار محدد، وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس، وتصنعت الروح الغضب مرة أخرى، وأجابته وهي تؤنبه: "الست رجلاً يافعًا عشت الحياة من قبل، فماذا حققت؟"، ثم قصت له قصة رجل فقد زوجته وأولاد نتيجة إعصار ألقى بهم فى بحيرة تعج بالتماسيح فى سواد الليل، وهدفت الروح، من رواية هذه القصة وأخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل الآخرين هانت عليه بلواه، لكنه دخل معها فى جدل آخر عن قيمة الحياة التى تدعوه إلى الرضا بها بعد أن فقد فيها الكرامة والثقة والأمل فى الناس ونظم إجابته من خلال أربع قصائد نثرية.
وتحدث عن الموت الذى فيه خلاصه من مأساته، وأكد على إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب والعقاب وعدل الأرباب فيها، وقال لها: "وها هو الحق.. الحق من وصل للعالم الآخر سيكون معبودًا يحيا به فيرد الشر على من أتاه. وها هو الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأسرار وكل بواطن الأمور".
وهكذا انتهت البردية فكانت أبلغ من هذا، وكان هذا اليائس يعيش فى صراعه مع روحه، ومن تلك البرية يتضح أن الأسلوب السردى أو السياق والنظام العام الذى استطاع من خلاله القاص المصرى القديم رسم ووضع العناصر الرئيسية للقصة، خاصة الزمان والمكان وحركة الأشخاص، مما ساعد على الحبكة الدرامية مما تحمله من تنوع في الأحداث والمواقف داخل الإطار القصصى، وحافظ على حيوية وتدفق وتتابع الحكاية.
أما عن الانتحار بالفعل، قال الدكتور حسين عبد البصير، هناك نص بردية تورين القضائية الشهيرة التى تتحدث عن مؤامرة الحريم على حياة الملك رمسيس الثالث، وانكشفت المؤامرة، وحقق فيها بأمر من الفرعون، وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته فى تلك المؤامرة المشينة، تلك هي مصر الفرعونية المبهرة بثرائها الأدبى والفكرى والقانونى الذى علم الحضارات وألهم الإنسانية.