فى 31 مارس الماضى جرت انتخابات محلّية تركيّة، مُنِى فيها «العدالة والتنمية» بخسائر فادحة فى العاصمة أنقرة، وفى إسطنبول التى تُمثِّل 20% من سُكّان البلد البالغين 80 مليونًا بحسب تعداد 2017، ما أخرج الحزب عن وقاره المُدّعى، فتقدُّم بطعون للجنة الانتخابات، واستصدر بالفعل قرارًا الاثنين الماضى بإعادة انتخابات اسطنبول أواخر يونيو المقبل.
فى الوجه الظاهر يحوز «العدالة والتنمية» أغلبيّة مُريحة حتى الآن، ويقبض على رُوح الدولة عبر صلاحيات «أردوغان» المُطلقة، بموجب تعديلات الدستور التى مرَّرها قبل عامين، لكن فى عُمق المشهد غير المُستقرّ لا تبدو الصورة ورديَّة كما كانت طوال عقدين، مساحة الزخم والتنامى فى أداء قوى المعارضة آخذة فى الاتّساع، والرفض الشعبى يتصاعد بوتيرة لا يُمكن إنكارُها، على الأقلّ فى ضوء ترجمته إلى أصواتٍ عقابيَّة وحرمانٍ قاسٍ للحزب من هيمنته السابقة على البلديات الكُبرى، وهو الاتّجاه المُرجَّح اتّصاله بين انكشاف ظهر النظام على الشارع، وتوالى علامات الإخفاق فى الإدارة السياسية والاقتصادية.
سياسيًّا لا يحتفظ «العدالة والتنمية» بثقله الدولى والإقليمى السابق. النظام يُصرّ على إدارة حضوره فى المشهد السورى بصورة مُعادية لمصالح دمشق، خروجًا على رؤى القوى الدولية وانحيازًا للفصائل الإرهابية، وفى العراق لا تنقطع ضرباته الجوية التى يدَّعى استهدافها لتشكيلات حزب العمال الكُردستانى، إلى جانب تنفيذه سدودًا ومشروعات مائية تُهدِّد حصص بغداد التاريخية، كما فقدت تركيا رصيدها المعنوى لدى الشعوب العربية، وفقدت قبله خطوط الاتصال والمصالح مع الدول الكبرى بالمنطقة، جهود التوافق مع أوروبا لم تعد تُثمر شيئًا بين رفض أوروبى دائم لاحتواء أنقرة بالاتحاد، وإصرار من «أردوغان» على تحدّى القارة، سواء بممارساته فى ليبيا أو تحرُّشه بقبرص، يُضاف لذلك صدامه مع الإدارة الأمريكية أواخر العام الماضى، ورغم اضطراره للإفراج عن القسّ أندرو برونسون فإنه تكبّد فاتورة قاسية جرّاء عقوبات اقتصادية ورسوم جمركية مُضاعَفة، والأهم أنه أحدث شرخًا نافذًا فى جدار العلاقات مع واشنطن، تعاظم بمُساندته إيران فى وجه العقوبات الأمريكية، وانحيازه لحكومة الوفاق والمجلس الرئاسى فى مواجهة الجيش الوطنى الليبى، بما يحمله ذلك من تأكيد للمضىّ العنيد فى مسار دعم الإرهاب.
إلى جانب المحنة السياسيّة فإن نزيف الاقتصاد المتواصل منذ صيف 2018 يُقوّض أيّة قدرة مُمكنة للنظام على إبقاء الغضب مكتومًا تحت رماد الأغلبية البرلمانية وصلاحيات الرئيس، فى غضون شهور فَقَد الاحتياطى النقدى أكثر من 20 مليار دولار، وخسرت الليرة 40% من قيمتها خلال سنة، زادت عليها 3% جديدة عقب قرار إعادة انتخابات إسطنبول، كما تراجع مُؤشِّر ثقة المُستهلك إلى 63% خلال إبريل الماضى، قياسًا على 68.3 نقطة فى أغسطس 2018، بحسب بيانات معهد الإحصاء الحكومى، وبالنظر إلى أن استقرار المُؤشِّر يتحقّق بتجاوز 100 نقطة فالأمر يُعنى أن ثقة الأتراك فى اقتصادهم تقترب من نصف مستواها الطبيعى. وإلى جانب ذلك أشارت توقعات رسمية إلى تسجيل البطالة 12% خلال 2019، وتراجع مبيعات المنازل 12.5% بحسب بيانات أغسطس، و70% للوحدات المُموَّلة بنظام الرهن العقارى، وتجاوز التضخم 19.5% مقارنةً بما بين 16 و17% خلال 2018، وتسجيل الفائدة 24% تضع تركيا ثانيا بين الاقتصادات الناشئة الأعلى فى كُلفة الإقراض، وهى قفزة ضخمة للغاية بالنظر إلى مستوى 8% قبل سنة.
الأزمة السياسية الآخذة فى الانغلاق داخليًّا، والخناق الخارجى مُضّطرد الضيق حول عُنق أنقرة، إلى جانب استمرار انزلاقها على مُنحنى اقتصادىٍّ هابط، كُلّها عوامل خطر تضع النظام فى مأزق حقيقى، ليس فقط فيما يتَّصل بعجزه عن القبض على خطوط الرجعة، وتصويب مساراته الذاهبة إلى الهاوية، وإنما ما يُمثّله الأمر من إعلان شيخوخته المُبكِّرة، بعد أقل من ستّ عشرة سنة على وهم الصحوة الإسلامية فى بلد «أتاتورك». حتى الآن لا يُمكن افتراض تحييد الجيش الذى أنجز خمسة انقلابات ناجحة بين 1960 و1997، رغم ما قطعه «أردوغان» من أشواطٍ بعيدة على مسار إزاحته من المشهد، وحتى لو تأكَّدت عملية التحييد، فإن خيار الاحتجاج الشعبى وعقاب الصناديق ربما يواصل مسيرة نموّه من محطّة أنقرة وإسطنبول، وصولاً إلى تقويض «العدالة والتنمية»، خلال استحقاقين انتخابيَّين على الأكثر.
تلك التركيبة القَلِقة، وما يرتبط بها من تفاعلاتٍ إقليميّة وعالمية، قد تدفع فى اتجاه الموت الخاطف بانعكاساته الجغرافية والجيوسياسيّة على وضعيَّة الدولة وعلاقاتها، بما يُؤطِّر امتدادها بحدود موضوعيّة تُناسب قدرتها، ويُعِيد هندسة حضورها على أرضية مُتوازنة عِمادُها المصالح المُتبادَلة، بدلاً من المكائد وصفقات الغُرف المُغلقة، وقتها رُبّما يكون سقوط أردوغان عن عرشه انتصارًا جديدًا لـ«أتاتورك» على «آل عثمان»، وانتصارًا لتركيا نفسها على أطماع اليمين الدينى التى تُحمّلها ما لا تُطيق، وتُكبِّدها ما يُشعل حاضرها ويجور على مُستقبلها، والأهم أنه سيكون سقوطًا أكثر دويًّا لأوهام الخلافة، وما يَعلَقُ فى كفِّها ورقبتها من جرائم وآثام.. وقتها فقط يُمكن الجزم بأن أفضل ما فعله الأتراك أنهم قادوا «أردوغان» للحكم قبل ستّ عشرة سنة، ليكون أداتهم للتبرُّؤ من خطايا خمسة قرون، ويكون آخر ضباع الأناضول وسَفَّاحِيها.