دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
ميلاد شمس الثائر الفلسطينى
فى الوقت الذى كانت تطالب فيه إسرائيل بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها لليهود جاء مولد عرفات يوم 24 من شهر أغسطس عام 1929، واسمه الحقيقى هو محمد ياسر عبدالرحمن عبد الرؤوف عرفات القدوة والمُكنّى بأبى عمّار، واشتهر لاحقا باسم ياسر عرفات، وكانت الظروف التى ولد فيها الطفل تهيئة له بأن يكون ثوريا محاربا مناضلا لأبناء شعبه.الطفل عرفات ينظم جنازة عسكرية لقطة
يبدو أن الحياة العسكرية والحروب كانت تغزو عقل «أبوعمار» منذ نعومة أظافره، فهناك مشهد عظيم يؤكد للجميع ذلك، إذ نظم ياسر أول «جنازة ذات طابع عسكرى»، وأشرف على إعداد تفاصيلها بنفسه، ولم يكن له من العمر سوى 11 عاما، كانت تلك جنازة قطه الأشقر «مشمش»، الذى شغف به هو وشقيقه فتحى كثيرا، حتى أنهما كانا يرقدانه بينهما على سريرهما الكبير المشترك ويشركانه فى كل ألعابهما، وانسجاما مع ظروف الحرب، قرر ياسر أن يقيم له جنازة عسكرية: لف جثة القط بقماشة ووضعها فى علبة كرتون أعدها بنفسه، ثم اتخذ موقعه على رأس موكب الأطفال وسار بهم بخطى وئيدة نحو أرض خلاء حيث دفنوه وألقى ياسر كلمة فى تأبين «الفقيد»، مشهد عمل جنازة عسكرية من قبل ياسر عرفات لقطه يظهر لنا عقلية الرجل وانشغاله بالحياة العسكرية، شخصية «عرفات» أرهقت الكيان الصهيونى لدرجة دفعتهم يحاولون اغيتاله، وشخصية مثل هذا عملت على نفسها منذ الصغر وتوسعت فى المعرفة، فقد كان الطفل عرفات يشرع فى قراءة الصحف فى سن مبكرة، وفى أثناء الحرب العالمية الثانية شاهد ياسر آلاف اللاجئين يتدفقون على القاهرة بعد وصول قوات ألمانية وإيطالية إلى خط العلمين فى غرب مصر، وكانت صور الدمار الذى تحدثه القنابل فى الإسكندرية تملأ صفحات جريدة الأهرام، وكان ياسر وأصدقاؤه يزورونهم ويطلعون على معاناتهم، فعرفوا مبكرا معنى اللجوء ومأساته، فكل هذه الأحداث دفعت ياسر عرفات للاهتمام بالأحداث السياسية وبالخرائط والأسلحة، لأنه عاش أجواء الحرب، وفى العام 1942 التحق ياسر بالمدرسة الثانوية وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وبدأ يوسع معارفه من خلال قراءة الصحف والكتب المتنوعة من الخفيفة إلى الأدبية والدينية والتاريخية.أكذوبة انضمام ياسر عرفات لجماعة الإخوان عام 1945
هناك من يردد بثقة أن «عرفات» قد انضم إلى جماعة الإخوان وهذه أكذوبة، إذ طرأت تغيرات كبيرة فى حياة أسرة ياسر عرفات خلال دراسته فى المرحلة الثانوية ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 كانت قضيتا التحرر من الاستعمار وهجرة اليهود إلى فلسطين من أبرز القضايا التى تتصدر النقاشات السياسية واهتمامات الأحزاب فى فلسطين والدول العربية، وكان الطلاب يعلنون انتماءاتهم السياسية، ومال ياسر عرفات فى هذه المرحلة إلى ما كانت تطرحه حركة «الإخوان المسلمون» من أفكار، لكنه لم ينتم إليها.ياسر عرفات.. طالب جامعى برتبة جهادى
الحياة الجامعية لياسر عرفات لم تكن كأى حياة دراسية، حيث كان ياسر عرفات طالبا فى السنة الأولى فى كلية الهندسة عندما استشهد عبد القادر الحسينى يوم 7 إبريل 1948 فى معركة جبل القسطل بالقدس، وبعد ذلك بيومين فى التاسع من نفس الشهر ارتكبت المنظمتان اليهوديتان المتطرفتان«الأرغون» و«شتيرن» مجزرة دير ياسين حيث قتل الإرهابيون نحو 360 شخصا من أهل القرية وتأثر عرفات بشدة بتطورات الأحداث فى فلسطين فأحرق مع صديقه حامد أبو ستة كتبهما أثناء اجتماع وقرر ياسر أن يتوجه إلى فلسطين لحمل السلاح دفاعا عن أرضه وشعبه ثم انضم إلى «جيش الجهاد المقدس» وعين ضابط استخبارات فيه.«عرفات» فى حضرة الضباط الأحرار
ولأن الطيور على أشكالها تقع، شاءت الأقدار أن يتعرف «عرفات» على شباب أصبحوا فيما بعد الضباط الأحرار، فى العام 1949 عاد ياسر عرفات إلى كلية الهندسة، وأسس ياسر عرفات مع عدد من الطلاب الفلسطينيين رابطة سموها «رابطة الطلاب الفلسطينيين» فى العام 1950 وانتخب ياسر عرفات رئيسا لها فى العام 1951 وتعرف إلى القائدين الثوريين المصريين كمال الدين حسين وخالد محيى الدين فى مؤتمر طلابى كبير عقد فى جامعة الملك فؤاد فى مايو 1951، وهما من الضباط الأحرار الذين قادهم جمال عبدالناصر فى ثورة 23 يوليو 1952، وفى المؤتمر ألقى ياسر عرفات كلمة باسم فلسطين بعد أن أقنع منظمى المؤتمر بإدراج كلمة فلسطين ضمن جدول أعمال المؤتمر، وفيها قال: «أيها الزملاء، لا وقت للكلام ولندع الرصاص يتكلم».
عرفات وانطلاق الكفاح المسلح
ظل عرفات شغوفا بالعمل النضالى ولم يرتض بالأوضاع القائمة، ورغم سفره من القاهرة بعد تخرجه من الجامعة إلى الكويت حيث توفر الثروة النفطية فيها العديد من فرص العمل، وفيها جالية مهمة من فلسطينيى الشتات استقر عرفات فى الكويت عام 1957وعمل فى البداية مهندسا فى وزارة الأشغال العامة، ثم أسس بصحبة شريك آخر شركة للبناء نجحت بشكل كبير فتحسنت أوضاعه المادية كثيرا، لكنه كان أيضا يكرس الكثير من وقته لنشاطاته السياسية وفى أواخر العام 1957عقد لقاء فى الكويت ضم ستة أشخاص هم: ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبد الكريم ويوسف عميرة وتوفيق شديد وعبد الله الدنان الذى وكانت تلك الاجتماعات هى اللبنات المؤسسة للحركة وفى اللقاء التأسيسى الأول لحركة واتفقوا على اسم الحركة كما يقول عرفات: «هى حركة التحرير الوطنى الفلسطينى وصارت «فتح».. ثورة حتى النصر المبين».
عملية علبيون.. انطلاق الثورة الفلسطينية
دارت الأحداث وبدأت فتح تبهر العالم أجمع بأعمالها حتى تم انتخابه عام 1969 من المجلس الوطنى رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وتولى قيادة المقاومة الفلسطينية لتلهب الأرض من تحت أقدام العدو الإسرائيلى وتنفذ عمليات أصابت سهامها قلب العدو الغاشم، واستطاع أبوعمار أن ينتزع الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينى من دول عدم الانحياز عام 1973 وكرس عرفات مكانة هذه المنظمة وظهر ذلك فى قمة الرباط عام 1974 حيث اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينى ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطينى، وفى نفس العام ألقى «عرفات» خطابا تاريخيا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالبا المجتمع الدولى بألا يسقط غصن الزيتون من يده ليشكل هذا الخطاب بداية التحول إلى مفهوم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والعمل السياسى، لتعلن إسرائيل أنها ستسحق منظمة التحرير الفلسطينية وحاولت مرارا وتكرارا اغتيال «أبوعمار».استقلال دولة فلسطين.. وعرفات رئيسا لها
من المحطات المهمة فى حياة ياسر عرفات الانتفاضات الفلسطينية، ففى ديسمبر 1987دهس مستوطنون إسرائيليون بسيارتهم عن قصد وتعمد أربعة عمال فلسطينيين وأصابوا سبعة آخرين فى مخيم جباليا بقطاع غزة، خرج الآلاف من سكان جباليا وغيرها فى قطاع غزة فى تظاهرات عنيفة احتجاجا على «الجريمة»، كان عرفات فى بغداد عند اندلاع الانتفاضة، وأدرك فوراً أن الكفاح قد دخل حقبة جديدة، وراح يعمل من أجل أن تستمر الانتفاضة إلى أطول مدى ممكن، واستمد عرفات من الانتفاضة قوة سياسية كبيرة وساعده فى ذلك حجم التعاطف الشعبى والرسمى عربيا ودوليا مع صورة الشعب الأعزل الذى ينتفض للتخلص من الاحتلال، لقد قلبت الانتفاضة الـمعادلة السياسية: فمنذ السنة الأولى لاندلاعها أصبح العالـم كله ينظر إلى عرفات بعين الاحترام والتبجيل رغم محاولات إسرائيل والولايات المتحدة لتجاوزه.
حصاره فى رام الله ليصبح شهيدا
أسوأ المحطات فى حياة «عرفات» وأكثرها شرفا وعزة فى الوقت ذاته، حصاره فى المقر الرئاسى برام الله، هو حصار فرضه الجيش الإسرائيلى على الرئيس الفلسطينى فى فترات الانتفاضة الثانية وأثناء الحصار تدهورت صحة ياسر عرفات كليا مما أدى إلى سفره إلى فرنسا لتلقى العلاج، ليقول كلماته الخالدة: «يريدونى إما قتيلا وإما طريدا وإما أسيرا.. لا أنا بقلهم شـــهيدا شـــهيدا شـــهيدا»، مات عرفات2004 وظلت حكايته بداخل كل فلسطينى وعربى، فنحن أمام رجل عاش قضيته وكان لديه إحساسه العالى بالمسؤولية، ومارس النضال فى الأردون والكويت ولبنان، وفى كل دول العالم من أجل فلسطين، وحلم بتحرير الوطن وتحقيق مبادئ العدالة والثورة وحقوق الإنسان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة