- عام 1975 بلغت مبيعات كتب أجاثا 400 مليون نسخة على نحو موثوق ليصل متوسط عدد قراء رواياتها نحو 200 مليون قارئ
تعد الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستى «15 سبتمبر 1890 - 12 يناير 1976» أعظم كاتبة فى التاريخ من حيث الانتشار، سواء على مستوى مبيعات الكتب وعدد القراء، أو من حيث شهرتها ككاتبة لقصص الجريمة فى القرن العشرين وفى سائر العصور، وقد ترجمت رواياتها إلى معظم اللغات الحية.
ومن اللافت فى سيرة أجاثا كريستى أنها لم تذهب قط إلى المدرسة، بل تلقت تعليمها فى المنزل على يد والدتها التى دفعتها إلى الكتابة وشجعتها عليها فى وقت مبكر من حياتها.
ولا شك أن سيرة كاتبة عظيمة بهذا الحجم حافلة بالكثير والكثير ليقال، ولا يوجد أكثر من عالم الآثار ماكس مالوان، زوجها الذى تحدث عنها فى كتابه «مذكرات مالوان» التى خصص لها عدة فصول ليجعل القارئ قريبا منها وكأنه عاش معها.
كانت أجاثا الإنسانة تتصف بالمراوغة التى يعود أصلها إلى أيامها المبكرة وتمثلت بالمقاومة الدفاعية إزاء سبر الغور الفضولى، والوقاية المتأصلة التى تجعل أية أسئلة تبدو مثل سهم عديم النفع، ورغم ذلك كانت أكثر سخاء من معظم الكتاب فى الكشف عن الذات، لأنها كتبت مذكرات مفصلة لما تنشر بعد ورواية بالاسم المستعار ميرى ويستماكوت بعنوان «صورة غير منجزة» 1934، نرى فيها لمحات خصوصية كثيرة من الطفولة المبكرة إلى بداية منتصف العمر، لا تعد هذه الرواية إحدى أفضل رواياتها، لأنها على خلاف الروايات الأخرى، مزيج من الأشخاص الحقيقيين والأحداث الخيالية، وليس بوسع غير المطلع معرفة مدى سجل الأحداث الفعلى الذى تتضمنه الرواية، ولكننا نجد فى شخصية سيليا صورة أجاثا أكثر من أى كتاب آخر.
أحيطت أجاثا كريستى منذ البداية بحب أبوين حنونين ورعاية أم ذات خيال غير مألوف كان محفزا لها، وكان مسكنها عشا متسما بحميمية الجو العائلة وضم مربية مسنة كانت تدافع عن أعلى مستويات الفضيلة والمعتقدات التقليدية التى كان يصعب أحيانا التوفيق بينها وبين واقع الحياة فى العالم.
منذ طفولتها المبكرة وهى تعيش فى عالم خيالى من صنعها وتحيا باستمرار مع مخلوقات من تصورها، ومنذ طفولتها تقريبا وجدت فى أحلامها رجلا مسلحا مخيفا، كان على مربيتها التى تحبها وعلى والدتها أن تطمئناها من ظهوره، إلا أنها لحسن الحظ كانت تعيش فى دائرة أوسع بكثير من الأصدقاء الخياليين والطيبين المنشغلين بمختلف الاهتمامات الساحرة، كما أن أمها كانت راوية قصص رائعة تخترع حكايات مشوقة وترويها ولا تستطيع إعادتها أبدا.
كانت أجاثا كريست تقول لوالدتها: «احكى لى قصة آلام الشمعة»، فتجيبها قائلة: «لا أستطيع تذكرها يا عزيزتى»، وتقص حكاية أخرى لا تقل عنها غرابة، وعندما جاء دور أجاثا كانت تبتكر الحكايات أيضا لحفيدها «ماثيو» الذى كان يقول لها: «احكى لى قصة أخرى من قصص الأرانب».
بعد أن ذاعت شهرة أجاثا كان من المعتاد أن يكتب إليها المعجبون برواياتها عارضين حبكة، إما بدافع الهواية أو بدافع الكسب، وكان الجواب دائما: إن أعظم متعة يحس بها المؤلف هى اختراع الحبكات، أما البقية فإنها محض عمل شاق، وإذا كانت لديك حبكة جيدة احتفظ بها لنفسك. وكانت هناك فى دفاتر ملاحظات أجاثا تخطيطات موجزة لست حبكات لم تكملها، لأنها انشغلت بأفكار أخرى، حفلت حياتها بالابتكار الذى لا حدود له، ولذا ليس مستغربا أنها نظمت الشعر أحيانا، وأن قصائدها الأولى كانت بعنوان «طريق الأحلام» ونشرت آخرها بعنوان «قصائد» فى عام 1973.
يكتب المعجبون إلى أجاثا فى أحيان كثيرة، وبعد أن يكشفوا عن أفضلياتهم يسألونها عن القصص المفضلة لديها، وجوابها هو أن آراءها تتبدل من حين إلى آخر، لكنها تذكر دوما رواية «قتل روجر أكرويد» 1926 و«الحصان الشاحب» 1961 و«الإصبع المتحرك» 1943 و«الليلة اللانهائية» 1967، والرواية الأخيرة من الروايات المفضلة لدى أيضًا.
كان لنجاح أجاثا بوصفها كاتبة روايات بوليسية ضرر واحد، إذ إن ناشرى رواياتها عارضوا أية رغبة لها فى التأليف بوسيلة أدبية أخرى، لم يؤلف أى كاتب روايات بوليسية لهذا الشكل مدة طويلة، وتخلت دوروثى ل. سيزر التى كانت أشهر معاصراتها، عن تأليف الروايات البوليسية بعد سبع أو ثمانى روايات ناجحة وتحولت إلى الكتابة عن الدين ودانتى وأشكال أخرى من الأدب.
ورغم ذلك حان الوقت الذى أصرت فيه أجاثا على الإذن لها بالنشر وشرعت تكتب باسم ميرى ويستماكوت، إن موهبتها فى كتابة الروايات جيدة بحيث إن تلك الكتب لقيت رواجا على الفور، ومرت سنوات كثيرة قبل الكشف عن الاسم الحقيقى، واستطاعت أجاثا بوصفها ميرى ويستماكوت، أن تكتب عن أفكار كثيرة كانت تعنى بها وهى الموسيقى، والمسرحية، والتحليل النفسى للطموح، ومشاكل الفنانين، وتناولت فى «خبز العملاق» مثل هذه الأفكار، إلا أننى أعتقد أنها فى هذا الشكل من الكتابة حصلت فى الواقع على حرية تناول الشخصيات بعمق وتحررت من قيود الحبكة البوليسية التى كان لا بد من إخضاع كل شخصية لها. فى القصة البوليسية التى يواجه فيها القارئ تحدى الكشف عن القاتل يصعب ترتيب دراسة مستمرة لشخصية واحدة، والأصعب من ذلك دراسة عدة شخصيات، وتحررت من القيد باسم جديد.
ابتداء من رواية «خبز العملاق» 1930 المكرسة لدى أمها كتبت قصة عن مؤلف موسيقى عبقرى كان عليه أن يحرر نفسه من حب الروابط الإنسانية لتحقيق هذه الغاية وخلق آثاره الفنية، فهل كان الثمن أكبر مما ينبغى؟ يترك للقارئ اتخاذ القرار، ولكن أعتقد أن هذه القصة المأساوية هى جزئيا نتيجة الاتصال بموسيقى كان أبواه معروفين جيدا لشقيقة أجاثا وهو روجر كوك الذى توفى منذ زمن بعيد.
وتأتى بعد ذلك رواية «غائب فى الربيع» 1944، وكانت لها خليفة مألوفة، إذ إنها كانت قصة امرأة عائدة من زيارة ابنتها فى العراق وهى مشلولة الحركة فى القطار بسبب غرق خط السكة الحديدة بمياه الفيضان. القصة تقوم على الاستبطان وهى إعادة تقويم الشخصية وتأمل خطر التظاهر بالتفوق على الآخرين فى المعرفة، ولقيت تقديرا عاليا فى صحيفة نيويورك تايمز من دوروثى هيوز، حيث كتبت: «لم أتأثر عاطفيا بقصة منذ قراءتى رواية لقاء قيصر مثلما تأثرت برواية غائب فى الربيع إنها تجربة تتطلب القوة وهى أثر أدبى من الطراز الأول».
أما فكرة رواية «الابنة هى الابنة» 1952 فهى مألوفة فى الحياة، وهى علاقة الحب - الكراهية الكامنة بين أم وابنتها الوحيدة وتتضمن لحسن الحظ إدراك الصلات التى تقود إلى المصالحة النهائية، أما رواية «العبء» 1956 فهى تعالج عبء أن يُحِب المرء، وأن يُحَب والرفض السهل للمشورة الحكيمة، وهى أيضًا دراسة تقوم على الاستبطان، وإدراك أن الهرب التام مستحيل فى نهاية المطاف.
أما رواية «الوردة وشجرة الصنوبر» 1947 ففى رأيى أنها أكثر روايات ميرى ويستماكوت قوة وإثارة، ووصفت بأنها رواية غرامية وتقوم على التشويق وتتركز فى شخص جابريلا الرجل الشجاع والشديد الطموح والقادر على الخير الوافر والشر والحاصل على وسام صليب فيكتوريا الذى يمتلك القدرة على المعاناة ونكران الذات.
وتمتعت ميرى ويستماكوت فى هذه الرواية بصورة السيدة الأرستقراطية تربسليان، والتناقض المرسوم على نحو فاعل بينها وبين إيزابيلا الأرستقراطية والمتودد إليها المتسم بالشيخوخة، وفى رأيى أن هذه الرواية تعد من الآثار الأدبية الممتازة ولكن يكون مصيرها النسيان.
إن روايات ميرى ويستماكوت تتسم بنوعية غير متساوية، إلا أن كل واحدة منها ممتعة القراءة وتضم دراسات عن الشخصية التى تستوعب بسهولة بفضل موهبة أجاثا كريستى غير العادية فى رواية القصص. هذه الروايات فى أحسن الأحوال مثيرة وتركز الاهتمام على حل الحالات التى تنشأ عن التوتر الشديد فى الحياة، ومن المؤسف أن تنسى وسط إنجاز الروايات البوليسية الكبير، ولا أعتقد أنها ستنسى.
فى عام 1975 قدر على نحو موثوق أن مبيعات كتب أجاثا بلغت 400 مليون نسخة، وإذا حسبنا على وفق الأساس المتبع فى مكتبات الإعارة أن كل نسخة يقرأها خمسة قراء نحصل على مجموع 200 مليون قارئ، ولهذا فإن السؤال الذى يطرح نفسه، ما الذى ساعد الروايات البوليسية على النجاح الساحق، والذى أدى إلى أن يقرأها ألف مليون شخص، أولا الفن الممتاز لرواية القصة الذى يحافظ عليه خيط مستمر بحيث إنك عندما تقرأ فصلا لا تستطيع مقاومة المضى إلى قراءة الفصل الذى يليه وتحس بألم عندما تترك الكتاب.
ومن المتع الإضافية أيضًا، المحققون السريون الذين أصبحوا الآن أبطال هذا الشكل من الروايات، ولا شك فى أن أكثر المحققين السريين شهرة فى روايات أجاثا كريستى هو كيركول بوارو الذى امتدت شهرته بوصفه بطلا لفيلم «جريمة قتل فى قطار الشرق السريع» إلى أرجاء العالم كافة.