لم أجد أسخف من مصطلح زمن الرواية الذى راج على يد جابر عصفور فى كتاب له بالعنوان نفسه عام 1999، وبعدها عندما حاول التكريس للمصطلح فى مجلة فصول النقدية، لكن لا كتاب جابر ولا مجموعة المقالات المتسرعة التى امتلأت بها مجلة فصول استطاعت أن تجعل من المصطلح أرضا نقدية خصبة تنمو فيها الأعمال الأدبية السامقة، لأن المصطلح نفسه فاسد ناقص، ويقوم على فهم قاصر لواقع الإبداع الأدبى فى مصر والدول العربية مع نهاية الألفية الثانية، كما يرتكب خطيئة المصادرة على المستقبل المفتوح على جميع الاحتمالات والتوقعات، كما علمنا ورأينا فى السنوات التالية، إذ تأكدت موجة صاخبة من الأعمال الشعرية المصرية والعربية، لم يكن النقد على مستواها من التلقى والمتابعة، كما أفرزت المطابع آلاف الروايات لم نشهد منها ما يضارع الكلاسيكيات الخالدة فى ضمير القارئ العربى.
لم يكن جابر عصفور وهو يصك المصطلح «زمن الرواية» وينظم أكبر حملة علاقات عامة للترويج له قادرا على متابعة المشهد الإبداعى المصرى والعربى متابعة حقيقية، فهو من النقاد الاتباعيين الذين يبذلون جهدا فى شرح ما رسخ واكتمل من طه حسين، وحتى أمل دنقل على العكس من عز الدين إسماعيل أو مصطفى ناصف اللذين يمثلان نموذجين للناقد الرؤيوى القادر على استشراف المستقبل والإبحار فى أمواجه العالية، وكذا استخلاص المقولات النقدية من رحم الفلسفة، وتعبيد الطرق أمام المبدعين الجدد، وكان هم جابر عصفور الأول والأخير أن يعارض أدونيس وكتابه زمن الشعر «1983»، حتى لو تعسف فى الطرح أو تعسر فى التقعيد للمفهوم فلسفيا وتعثر فى تبريره نقديا.
من ناحية أخرى، منح مصطلح «زمن الرواية» والضجة الزائفة التى رافقته، الموجات الشعرية المصرية والعربية مناخا صحيا للنمو والنضج والفرز، بعيدا عن النقاد غير المؤهلين والنقاد العاجزين عن الرؤية والنقاد الفقراء إبداعيا والنقاد المتكلسين والنقاد الأصوليين والنقاد الشكلانيين والنقاد المأخوذين بالنزعات الغربية التى تصلنا متأخرا كالعادة ثم تستغرق وقتا طويلا حتى نتفهمها ثم نتخذ موقفا منها، مثل البنيوية والتفكيكية ونظريات ما بعد الحداثة، ونظرا لأن المناخ النقدى خصوصا فى مصر شهد انقطاعا بين الفلسفة والنقد من ناحية، والأيديولوجيا والنقد من ناحية أخرى، ودور النقد فى المجتمع والأدب من ناحية ثالثة، دخل النقد الأدبى فيما يمكن تسميته بـ«العزلة المدرسية»، حيث انكفأ النقاد فى العقود الأخيرة على مقاربات شكلية للأعمال الأدبية بعيدا عن أسئلة الغاية والقيمة والأفق الفلسفى والمجال الاجتماعى الذى ينتج هذه الأعمال الإبداعية، الأمر الذى أسفر عن أعمال نقدية هزيلة ودراسات أصولية وكتابات تلوك ما هو موجود وقائم من دراسات سابقة، كما تحول النقد إلى عمل مدرسى صرف يحكمه توجهات الأساتذة المشرفين على رسائل الماجستير والدكتوراة، ونحن نعرف مستوى هؤلاء الأساتذة والكيفية التى يترقون بها ويشرفون على تخريج أجيال أمية بلا رؤية ولا موقف ولا تستطيع إلا استرجاع ما لقنوها إياه.
وتتضح هذه العزلة المدرسية للنقاد عند مقارنة عطاءات النقاد فى سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين مع نظرائهم فى العقود الأخيرة منه، ويكفى أن نذكر أسماء مصطفى ناصف وشكرى عياد ومحمد مندور ومحمود أمين العالم وإبراهيم فتحى وعز الدين إسماعيل وما قدموه للمكتبة العربية من إسهامات نقدية بارزة وما تلفظه المطابع من غثاءات لمن يحسبون أنفسهم نقادا أو يتصدون لتدريس النقد الأدبى فى الجامعات المختلفة دون أن يمتلكوا الحصيلة المعرفية ولا الموقف النقدى ولا الأساس الفلسفى ولا حتى ملكة الإنصات إلى الأعمال الأدبية
وما دام الأمر هكذا، فلا أقل من أضعف الإيمان، أن يتصدى الشعراء والكتاب لعرض رؤاهم وخبراتهم الكتابية ومحبتهم للأعمال الإبداعية المعاصرة، والبدء فى إرساء مناخ نقدى مغاير يقوم على القراءة الواعية والإنصات للنصوص الإبداعية، وتقصى رؤاها وغاياتها والمجالات الكتابية التى تتقاطع معها، ولتكن البداية بديوان الشاعر خالد أبوبكر«ومخالب إذا لزم الأمر» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب العام الحالى ..
وللحديث بقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة