فى 25 يونيو 2015 قُتل جندى إماراتى فى اشتباك مع الحوثيّين على حدود السعودية، بعد ثلاثة شهور من إطلاق عمليات التحالف العربى باليمن. وفى أغسطس التالى قُتل ثلاثة، ولحقهم 45 إماراتيًّا و5 بحرينيّين وعدّة سعوديّين خلال سبتمبر، ورغم طبيعة الحرب واحتمالات الخسارة الدائمة، كان غريبًا ألّا تخسر قطر؛ رغم مشاركتها بـ1000 ضابط وجندى!
فى وقتٍ لاحق اكتُشف السبب. كانت الإمارة على علاقة وثيقة بالميليشيات المدعومة من إيران، واستغلّت وجودها مع الأشقاء، لمساعدة الحوثيّين على استهداف التحالف. أو بالأحرى، ذهبت إلى اليمن؛ لتكون خنجرًا فارسيًّا فى خاصرة العرب.
بين انطلاق العمليات مارس 2015، واكتشاف المؤامرة يونيو 2017. عملت قوات الدوحة طيلة 27 شهرًا على توفير منصّة لوجستيّة واستخباراتيّة للحوثيّين، وزار وزير دفاعها اليمن للتأكّد من انتظام العمل. وقد تدفّق عبر تلك القناة كمٌّ هائل من المعلومات والخطط والمسارات وإحداثيّات المُعسكرات، كان حصيلتها تفجير مخزن ذخيرة إماراتى فى «صافر» بمحافظة مأرب، بل إن الصاروخ المُستخدم فى العملية دُبِّر بمعاونة الدوحة!
الهجوم نفَّذه الحوثيّون بصاروخ «توتشكا» روسى، وهذا الطراز كان يملكه نظام عبدالله صالح، ويتوفّر فى مخازن إيران وسوريا وحزب الله حتى الآن. وسواء استُجلب من داخل اليمن أو خارجه، فإن نظام الدوحة لم يكن بعيدًا عن الأمر!
تعود علاقة الإمارة بالحوثيّين إلى صيف 2006، بعد سنتين من اندلاع صراعهم مع النظام فى جبال صعدة شمالىّ اليمن. وقتها وظّفت الدوحة جمعيات خيرية ومراكز استثمارية تملكها فى دعم الميليشيات، ومع غَلبة الجيش وتطوّر الاشتباك باتّجاه القضاء على الحوثى، اضطرّت لدخول المشهد عَلنًا، فكانت زيارة أميرها السابق حمد بن خليفة خلال مايو 2007.
أجبر «حمد» النظام على توقيع اتفاق من 9 بنود، بحسب ما أعلنت صحيفة «الوسط» الحوثية فى 2008، تضمّن إعلانًا مُشتركًا لوقف إطلاق النار، وتسريح المُحتجَزين، وسحب مذكرة الإنتربول ضد يحيى الحوثى، وإصدار عفوٍ عن عناصر الميليشيات، وتشكيل لجنة لدراسة تقاسم السلطة، والسماح لمؤسَّسة «قطر لتنمية اليمن» بالتحرُّك فى صعدة.
أُلزم «صالح» كذلك بتعويض الميليشيات بـ18 مليون دولار، إضافة إلى أضعاف ذلك ضخَّته الإمارة، ثمَّ استضافت عبدالملك وعبدالكريم الحوثى، وعبدالله الروزامى، ومنحتهم قصورًا فى الدوحة. وتكرَّر الأمر بزيارة ثانية للأمير يوليو 2010، كان ظاهرها التهدئة، وباطنها دعم الميليشيات وتعزيز روابطها مع حركة الإصلاح (الإخوان)، عبر لقاء ثلاثى جمع زعيمها محمد الميدومى، ومُتحدِّث الحوثيّين على البخيتى، تمهيدًا للإطاحة بـ«صالح».
زار «الميدومى» قطر فى 2012، وزار «البخيتى» طهران فى العام نفسه، وجمعته لقاءات بقادة الحرس الثورى، بحضور شخصيات قطرية. وكان ذلك بداية فصل جديد من تحرُّكات الإمارة فى اليمن دعمًا للميليشيات، فى تنفيذٍ لتوجيهات إيران واستراتيجيّاتها من جانب، واستهداف لمصالح الجيران، خاصة مصر والسعودية والإمارات، من جوانب أخرى!
تخيَّلت الدوحة أن اتّخاذ الحوثيّين نقطة ارتكاز فى الجنوب العربى، يُمكن أن يكون فرصةً لتهديد الملاحة فى باب المندب والبحر الأحمر، بما يُقوّض مصالح مصر الإقليمية ويُقلِّص عوائد قناة السويس، فضلاً عن إمكانية استهداف خليج عمان، للتأثير على ميناءى الفُجيرة وجبل على الإماراتيّين، والأهمّ شنّ هجمات برّية وصاروخية على الجنوب السعودى، بشكل يخلق توتُّرًا مُزعجًا للرياض.
اقتضى هذا السيناريو تقوية مراكز الميليشيا، وتعزيزها جغرافيًّا وعسكريًّا، فبدأ مسار الدعم وتوسّع. فى 2013 ضبط اليمن سفينة إيرانيّة على متنها قطريّون ومعدّات عسكرية، ولاحقًا موَّلت الإمارة صفقات أسلحة وصواريخ تدفَّقت من إيران ومخازن الجيش السورى المُستولَى عليها، ومن تركيا و«حزب الله»، وتولّى الأخير نقلها بمعاونة فنيّة من الحرس الثورى حينًا، وعبر سُفن وبحّارة أتراك فى أحايين أخرى.
اكتشاف خيوط المؤامرة كان سببًا فى قرار التحالف العربى بإنهاء مشاركة قطر فى عملياته، بالتزامن مع مقاطعة الرباعى العربى للإمارة فجر الاثنين 5 يونيو 2017، لكن غياب الوجود القطرى عن التراب اليمنى رسميًّا، لم يمنع استمرار وجودها المشبوه!
استمرّ استهداف الحوثيين للسعودية. الأحدث اعتراض صاروخ باليستىّ فى سماء أبها، وقبلها بأسبوع سقوط صاروخ جوّال «كروز» على مطار المدينة بعمق 200 كيلومتر، وهجمات بطيارات مُسيَّرة بعيدة المدى على مطار جازان ومصفاة لـ«أرامكو» بالرياض، وعدَّة صواريخ طالت قاعدة الملك خالد الجوية فى «خميس مشيط» ومواقع عسكرية فى «أبواب الحديد» بمحافظة عسير.
صواريخ «كروز» التى يستخدمها الحوثيّون، سبق أن وجّهوها إلى محطة طاقة نووية فى «أبوظبى» خلال 2017، وهى مُتطوّرة فنيًّا، بشكلٍ يتعذَّر تصنيعه داخل اليمن، كما أن تكلفتها المتجاوزة 600 ألف دولار للواحد، تُرجّح احتمال أن تكون من بقايا القوات القطرية، ورُبّما نُقلت من تركيا أو إيران بمعرفة الإمارة.
يُمكن النظر إلى استهداف 4 ناقلات نفط على سواحل الفجيرة خلال مايو، وناقلتين تحملان شحنتين من الإمارات والسعودية فى خليج عمان الخميس الماضى، ضمن مُسلسل استهداف مصالح البلدين الداعمتين للنظام اليمنى الشرعى، عبر إيران وأذرعها، وهو أمرٌ لا ينفصل عن وجود قطر المشبوه فى اليمن، وعن المقاطعة العربية للإمارة.
حتى الآن، لا يبدو أن الدوحة بصدد مُراجعة مواقفها، أو تعديل خططها لاحتضان الحوثيّين ودعمهم. وهذا التصوّر يُرجِّح استمرار قُدرة الميليشيات على المناورة والاشتباك، وتشكيل تهديد للتحالف ومصالح السعودية والإمارات، لكنّه يُعمِّق القطيعة مع قطر، ويذهب باحتمالات الوفاق إلى المقبرة!
الأهم، أن الإمارة التى تورَّطت مع الأتراك والفُرس إلى مدىً بعيد، يصعب عليها التراجع دون مُوافقة أنقرة وطهران. وقَطعًا فى ظلِّ عدائهما للعرب لن يتخلّيا عن تابعهما الصغير، وتلك نقطة أخرى تخصّ الابتزاز الذى يُكبِّل الدوحة، ويُكبّدها خسائر يوميّة فادحة، ليس أقساها خيانة الأشقاء وإراقة الدم، وإنما يمتدّ إلى ثرواتها ومُقدّرات مواطنيها، وإلى القصر الأميرى، الذى بات رهن الوصاية، والشعب المسحوق بين سندان الغطرسة، ومطرقة الاحتلال!