نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ ما قاله فى تفسير سورة البقرة فى الآية الحادية عشرة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
(إذا) فى موضع نصب على الظرف والعامل فيها (قالُوا}، وهى تؤذن بوقوع الفعل المنتظر.
قال الجوهري: (إِذا) اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذى يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهى ظرف وفيها معنى المجازاة.
وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتنى آتك. والفاء: إن تأتنى فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم: 36].
وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصى فقد أفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها، كما قال فى آية أخرى: (وَلا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف: 56]. قوله: (فِى الْأَرْضِ) الأرض مؤنثة، وهى اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذى ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضى أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا أرضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أى زكية بينة الاراضة. وقد أرضت بالضم، أى زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أى معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا:
ولم يقلب أرضها البيطار ** ولا لحبليه بها حبار
أى أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري! أزلزلت الأرض أم بى أرض؟ أى أم بى رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا:
إذا توجس ركزا من سنابكها ** أو كان صاحب أرض أو به الموم
والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أى أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة بكسر الراء وهو أن يكون له عرق فى الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والاراض بالكسر: بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أى متواضع خليق للخير. قال الأصمعى يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أى أخلقهم. وشئ عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدى أريض أى سمين. قوله: (نَحْنُ) أصل (نَحْنُ) نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي.
وقال الزجاج: (نَحْنُ) لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة (نَحْنُ) لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع فى قوله عز وجل: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة: 16] وقال محمد بن يزيد: (نَحْنُ) مثل قبل وبعد، لأنها متعلقة بالأخبار عن اثنين وأكثر، ف أنا للواحد نحن للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه فى قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) [الزخرف: 32]. والمؤنث فى هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فأعلم.
قوله تعالى: (مُصْلِحُونَ) اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء بضم اللام وفتحها لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح بضم الصاد مصدر صلح بضم اللام، قال الشاعر:
فكيف بإطراقى إذا ما شتمتنى ** وما بعد شتم الوالدين صلوح
وصلاح من أسماء مكة. والصلح بكسر الصاد: نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أى أن ممالاتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة