«نموذج للوقاحة والسفالة والتكبُّر والتحذلُق وانهيار سياسة تركيا... شخصيّته، تصرُّفاته، صوته، رياؤه، لم أرَ رجلاً قادرًا مثله على الكذب، إنه مُحترف يرصّ الأكاذيب دون أىّ توتر».. بهذا المقطع الذى يُمكن سحبه على رجب طيب أردوغان، شنّ النظام حربًا شرسة على أكرم إمام أوغلو، الذى انتزع بلدية إسطنبول من «العدالة والتنمية» للمرة الثانية خلال 3 أشهر.
ملأ أجير النظام إبراهيم قراغول مقاله فى «ينى شفق» باتّهامات العمالة والخيانة واستهداف الدولة، وبالطريقة نفسها كتب ياسين أقطاى، مستشار أردوغان: «فشلوا فى إسقاطه، واليوم يطمحون فى بدء مهمتهم من إسطنبول التى يحكمها منذ 25 سنة والتى تبدأ منها نجاتنا جميعًا».
الارتباك والجنون اللذان ضربا هياكل النظام، عقب فوز مُرشَّح «الشعب الجمهورى» فى 31 مارس، كشفا حجم الخسارة التى مُنيت بها عصابة تركيا، لم يكن الأمر مُرتبطًا بتقدُّم حزب أتاتورك بعد أقلّ من سنة على خسارته الرئاسة بفارقٍ شاسع، وإنّما اتّصل بنزيف مصالح تكبَّدته «مافيا أردوغان»، بخروج الغنيمة الكبرى وجوهرة الكنز من قبضتها، مع ما يحمله ذلك من مخاوف انكشاف السرقة والتربُّح طوال ربع القرن.
صدمة الهزيمة أسقطت خطاب الديمقراطية الذى يتشدَّق به «أردوغان» تحت الأحذية. شنّ النظام سريعًا هجماتٍ قاسية ضدّ «الشعب الجمهورى» ومُرشَّحه، ووظَّف صُحف الحزب ومواقعه فى المعركة، وصولاً إلى وكالة الأناضول وتليفزيون TRT الرسميَّين، ثمّ طعن على النتائج، ومارس ضُغوطًا على اللجنة العليا للانتخابات حتى انتزع قرارًا من ثُلثى أعضائها بإعادة الاقتراع. وقبل ثلاثة أيام من الجولة الثانية، قالت صحيفة «حرييت» إنّ أردوغان عزل 13 عضوًا باللجنة، وأحالهم إلى التحقيق التأديبى، على خلفيّة النتائج الفاضحة لمُرشَّحه بن على يلدريم.
كانت «ينى شفق»، التى نشرت مقالى قراغول وأقطاى، ذراعًا طُولى فى الحرب. الصحيفة تُموِّلها مجموعة «البيرق القابضة» المملوكة لـ«صادق»، والد البرات البيرق، وزير المالية وزوج إسراء أردوغان، الذى يملك مؤسَّسة حصلت مع جمعيّتى «تورجيف» الخاصّة بزوجته، و«توجفا» بلال أردوغان، على مساعدات من إسطنبول بـ147 مليون دولار خلال 2018، حسبما نقل DW الألمانى، إضافة إلى عقود للمجموعة بمئات الملايين، مُنذ سيطرة الديكتاتور على المدينة 1994، ما يعنى أنّ الحرب لم تكن ثأرًا لـ»يلدريم» وخسارته المُهينة، وإنّما دفاعًا عن فسادٍ تخشى «مافيا أردوغان» انكشافه، خاصّة أن المافيا تضمّ أبناء «يلدريم» نفسه، المُتورِّطين فى فضيحة «وثائق الجنّة» 2017.
سخَّر النظام وداعموه كلّ الإمكانات لاستهدف «أوغلو» وتكسير كُتلته، بما يضمن تقليص فرص انتزاعه لإسطنبول مرّةً ثانية، لكن حدثت المفاجأة، وفاز بفارقٍ مُذلّ يقترب من 60 ضعف الفارق بالجولة الأولى. فى مارس حصد 4 ملايين و169 ألف صوت بنسبة 48.8%، مقابل 4 ملايين و156 ألفًا بنسبة 48.6% لمُنافسه الحكومى، بمشاركة 83.9% من الناخبين. وفى 23 يونيو زادت النسبة لـ84.5%، لكن خسر «يلدريم» 253 ألف صوت، ليحوز 3 ملايين و921 ألفًا بنسبة 45.1%، وزاد أوغلو 529 ألفًا باقتناصه 4 ملايين و700 ألف بنسبة 54%. ليتَّسع الفارق من 13 ألفًا بنسبة 0.2% إلى قُرابة 800 ألف بنسبة 8.9%.
شمل التراجع 39 مُقاطعة تضمّ 31 ألفًا و186 صُندوقًا، وبدت هياكل «العدالة والتنمية» مُهتزّةً ومُفكَّكة، فغابت مناطق ثِقَله فى الريف والجيوب الفقيرة، أو تحوَّلت بشكلٍ حاد، وإذا نظرنا إلى فوز أردوغان فى رئاسية 2018 بنسبة 52.6% مقابل 30.8% لمُنافسه مُحرّم إنجه، مُرشَّح «الشعب الجمهورى»، فإن انعكاس التصويت إلى 54% للمعارضة و45% للسُّلطة، يعنى أن خريطة التأثير فى أهم مدن تركيا قد تغيَّرت، ورُبَّما يكون التحوَّل مُقدِّمةً مُزعجة لـ«أردوغان»، الذى يعتبرها مركز قوَّته، وخزانته التى لا تنضب.
جاء «أوغلو» من خلفيّةٍ مُتواضعة، كان عُمدة «بيلك دوزو» الفقيرة، سابع أصغر حىّ بين 39 قسمًا بإسطنبول، ولا يتجاوز سكانها 186 ألفًا، بينما هناك 11 مُقاطعة فوق نصف المليون و15 تتجاوز 300 ألف، ولأنّ ماضى «أردوغان» يُطابق تلك الرحلة فإنه يَعى أنّ النتيجة لا تُمثِّل فوزًا محليًّا محدودًا، وإنّما تحمل مُؤشِّرات صالحةً لقراءة المُستقبل واستشرافه، خاصّة أن «أوغلو» يُشبهه فى المُراوغة والقومية المُتطرِّفة وبراجماتيّة اللعب بكل الأوراق، ويُمكن أن يملأ مساحته ويُقدِّم نموذجًا مُماثلاً له حال اقتناص السلطة، لكن إلى جانب ذلك تتضاعف مرارة الخسارة فى ظلِّ إجبار رَجلِه المُخلص «يلدريم» على الاستقالة من رئاسة البرلمان ليكون مندوبه فى إسطنبول.
يستميت «أردوغان» فى مُطاردة أيّة إشارة إلى تراجع حزبه واشتعاله بالصراعات، بينما تتسارع موجة الغضب من إدارته، مع تضخُّمٍ يتجاوز 20%، وبطالة 16% وفائدة 24%، وديونٍ خارجية أكثر من 500 مليار دولار، يُرافقها تراجعٌ للصادرات، وانكماش اقتصادىّ بقُرابة 3%. وفى ظلّ هذا المناخ يتصاعد طموح المُتطلِّعين لوراثة الديكتاتور، سواء من أعدائه التاريخيين، أو قُدامى الأصدقاء الذين انقلب عليهم بتأثير الطمع وجُنون العَظَمة.
يخشى الرجلُ حُلفاءه أكثر من أعدائه، أقرب أصدقائه عبدالله جول، جسر صعوده غير الشرعى للسلطةِ، بالتحايُل على الحظر عقب سجنه بتُهمة إشاعة الكراهية، قال إن إعادة الانتخابات «ظُلم»، وصديقه ورئيس حكومته بين 2014 و2016، داود أوغلو، وصفها بـ«مُناقضة القانون»، وانتقد انتهاكه الدستور وتحالفَه مع المُتطرِّفين وقُيودَه على الأحزاب والإعلام، وأوردت «إيكونوميست» البريطانية أنّهما يتّجهان لتشكيل حزبٍ، بمُعاونة على باباجان، ووزراءٍ سابقين ورُموز بـ«العدالة والتنمية».
صعد بائع السميط والبطيخ، ولاعب الكُرةِ الرخيص، إلى رأسِ السُّلطة من محطّة إسطنبول، ورغم أهمية المدينة الطبيعية، فقد أكسبها مكانةً مُضاعَفةً، بربط نظامه وهياكل حزبه المالية والسياسية بها، إلى درجةِ يقينه التام بأنه لا بقاء دونها، وإذا كان الصعود من الصفر استغرق 25 سنة، فإن المدينة قد تكون مقبرته فى مدى أقرب، بل رُبّما يقف أكرم أوغلو على أطلال النظام، ورُفات زعيمه المجنون، أسرع ممّا احتاج «أردوغان» للامتلاء بالْوَهم، وانكشاف طَفرته الزائفة مع أوَّل أزمةٍ مالية عبرها الزعيم وعصابته!