تنوعت متابعات وسائل الإعلام لوفاة الفنان محرم فؤاد فى اليوم التالى لوفاته 28 يونيو- مثل هذا اليوم - 2002 - ما بين خبر عن جنازته، وتقارير مختصرة عن مسيرته الفنية، بينما كنت أنا أحفظ بين أوراقى وقائع جلسة حوار معه امتدت لساعات فى مسكنه بحى الزمالك يوم 2 أكتوبر عام 1997، وعدت إليها وقتها، كما أعود من جديد إليها فى ذكراه السابعة عشر - «راجع ذات يوم 27 يونيو 2019».
بدا لى أنه يعود شابا رغم سنواته الـ63، حين توقفت معه عند بعض أغنياته الجميلة التى بدأ فى تقديمها أواخر خمسينيات القرن الماضى «مثل.. يا غزال إسكندرانى، ويا وحشنى رد عليه إزيك سلامات، وغادرين، وأجمل صباح عندى، وأبحث عن سمرا، وإوعى تكون بتحب يا قلبى، وتعب القلوب، وكله ماشى، وصبر أيوب، وفى فيلم حسن ونعيمة الذى كان أول بطولة سينمائية له مع الوجه الجديد سعاد حسنى عام 1959 قصة عبدالرحمن الخميسى، وإخراج بركات، قدم أغنيات رمش عينه، والحلوة داير شباكها، وأنا عايز صبية، تذكر مع هذه الأغنيات أسماء رائدة مثل، محمد الموجى، بليغ حمدى، فريد الأطرش، محمد عبدالوهاب، عبدالعظيم محمد، سيد درويش، وشعراء أغانى كبار مثل، حسين السيد، مرسى جميل عزيز، سيد مرسى، محمد حمزة، مأمون الشناوى.
سألته عن هذه الأغنيات، وعما إذا كان توقع نجاحها، قال: «هى نتيجة تعاون جماعى شارك فيه معى الملحن والشاعر، لكن أنا مقياس للكلمة واللحن بإخلاصى وتذوقى.. أختار الكلمات التى أشعر أنها ستعجب الناس فأقدمها، وأقيس جودتها فى الأصل بضميرى الشخصى والفنى.. المطرب يحس بخبرته وذكائه بالكلمة واللحن، وفور أن تخرج الأغنية إلى الناس هناك من يخطط لها بهدف إنجاحها بكثرة الحديث عنها وحشد الإعلام لذكرها، وهناك من يتركها تتفاعل وحدها، غير أنه فى الحالتين لا تبقى إلا الأغنية الجميلة، لوعدنا إلى الوراء فسنجد عشرات الأغانى خرجت بزفة كبيرة ثم اختفت، لأنها افتقدت لجمال اللحن، أو جمال الكلمة، حتى ولو كان الصوت جميلا.. أنا مثلا وأعترف لك بكل صراحة، لم أخطط لفنى، بمعنى أننى كنت أضع لنفسى خطة مدروسة، أى سأفعل كذا، وبعد أن أنتهى منه سأفعل كذا.. حياتى الفنية لم تكن كذلك».
هذا الاعتراف دفعنى لسؤاله عن غيره ممن عاشوا فنيا بخطة، فأجاب على الفور: «عبدالحليم حافظ، محمد عبدالوهاب، أم كلثوم»، سألته عن بليغ حمدى، فأجاب: «بليغ ده حالة لوحدها، عشنا معا منذ الصبا، كان عمرى 15 عاما وعمره 18 عاما، هو أكبر منى بحوالى ثلاث سنوات، عرفته وهو يغنى فقط ويحضر معى الأفراح.. كان متيما بتقديم أغانى «غريب الدار» لعبده السروجى، و«يا حلو ناديلى»، لكارم محمود، ولما عبدالحليم حافظ غنى «صافينى مرة» غناها أيضا.. بليغ ده عبقرى.. أنا وصلاح عرام اللى قلنا له: «جواك نغمة ولحن»، إلى أن بدأ بأغنية «ماتحبنيش بالشكل ده، لفايزة أحمد، وقبلها كان له تجربة مع فايدة كامل.. هو عبقرى من مولده.. كل ألحانه عبقرية، وفى رأيى أنه علم من أعلام الموسيقى ليس فى مصر بل فى العالم، درس، تعلم على إيد موسيقى إيطالى، بقى عنده وعى موسيقى كبير جدا، هو من علامات مصر الكبرى، لازم يتعمل له تمثال زى أحمد شوقى وطه حسين ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم».
سألته عن نصيبه فى الغناء الوطنى، فتحدث عما قدمه فى سنوات التعبئة التى بدأت بعد نكسة 5 يونيو 1967، واستمرت حتى انتصارات أكتوبر 1973، قال: «سجلت أغانى وطنية كثيرة، أذكر منها «مصر لم تنم/ قسما بكل دم»، و»إلى الأمام يا عرب»، وأضاف: «غنيت للقضية الفلسطينية، وصوتى راح لإنى كنت أؤدى نشيد عالى جدا، فضرب حبل صوتى اليمين لإنى حملته أكثر من طاقته بسبب اندماحى الشديد فى الغناء»، كان النشيد اسم «الخطاب المفتوح» ويخاطب الضمير العالمى، وكتبه عبد الرحمن الأبنودى ولحنه عبدالعظيم محمد.
توقف «محرم» طويلا أمام نشيد «بلادى/ بلادى»، قائلا: «قدمته عام 1966.. كان عمره 43 سنة ومدفون.. ألغيت منه التطريب والتنغيم المخنس، أحسست أن سيد درويش عمل لحنه لمحرم فؤاد.. اللحن كله رجولة، ومن يقدمه لابد أن يكون صوته معبرا عن ذلك، ولأن سيد درويش مات فور تجهيزه للحن ولم يغنه، قدمه واحد اسمه محمد بخيت الذى عاش حتى أصبح سكرتير نقابة الموسيقيين، قدمه بالأسلوب التطريب القديم الذى يغلب عليه طابع الميوعة أحيانا، كان يؤدى مثلا «مصر يا أم البلاد»، بمدها الطالع والنازل، فى حين أن الأداء الصحيح لها يسوده القوة، كان من حظى أن مؤلفه يونس القاضى مازال على قيد الحياة وقت تقديمى له «ولد 1 يوليو 1888»، وتوفى عام 1969، قابلته، واكتشفت منه أن النشيد فيه أربعة كوبليهات لم يتم تقديمها، وكل كوبليه يحكى شيئا عن مصر، وبحثت عما تعنيه كلماته، أتذكر أننى أحضرت كتبا عديدة من بينها مؤلفات لعبدالحميد جودة السحار وقرأتها لأعرف عمق النشيد فى جذور مصر التاريخية.. تأكدت من صدق كلمة «مصر يا أم البلاد»، أنا أتوقف أمام الكلمة والحرف بشكل لا يتخيله أحد.