نواصل اليوم، ما بدأناه من تفسير كلام الله، وقد اخترنا تفسير القرطبى المسمى بـ "الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان" لـ محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى، الخزرجى، الأندلسى، القرطبى، توفى بمنية بنى خصيب بمصر، وهو من كبار المفسرين، رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب "فى شمالى أسيوط" وتوفى فيها (671 هـ - 1273 م).
ونتوقف اليوم عند قول الله تعالى فى سورة الفاتحة "الحمد لله رب العالمين":
الأولى:
قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ
روى أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدى الحمد لى".
وروى مسلم عن أنس بن مالك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.
وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها.
الثانية:
اختلف العلماء أيما أفضل، قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل، لأن فى ضمنه التوحيد الذى هو لا إله إلا الله، ففى قوله توحيد وحمد، وفى قوله لا إله إلا الله توحيد فقط، وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل، لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
الثالثة:
أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الايمان، فدل على أن الايمان فعله وخلقه، والدليل على ذلك قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) والعالمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الايمان، لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم، على ما يأتى بيانه.الرابعة:
الحمد فى كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا.
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذى كثرت خصال المحمودة.
والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجل: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أى صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حمده مثل همزة يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحمده النار بالتحريك: صوت التهابها.
الخامسة:
ذهب أبو جعفر الطبرى وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمى فى كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء، قال ابن عطاء: معناه الشكر لله، إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبرى على أنهما بمعنى واحد بصحة قولك: الحمد لله شكرا، قال ابن عطية: وهو فى الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه، لأن قولك شكرا، إنما خصصت به الحمد، لأنه على نعمة من النعم.
وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد، لأنه باللسان وبالجوارح والقلب، والحمد إنما يكون باللسان خاصة.
السادسة:
أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن فى ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك فى كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى).
وقال عليه السلام: احثوا فى وجوه المداحين التراب» رواه المقداد. وسيأتى القول فيه فى النساء إن شاء الله تعالى. فمعنى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أى سبق الحمد منى لنفسى أن يحمدنى أحد من العالمين، وحمدى نفسى لنفسى فى الأزل لم يكن بعلة، وحمدى الخلق مشوب بالعلل.
قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذى لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار.
السابعة:
وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من (الْحَمْدُ لِلَّهِ) روى عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بنصب الدال، وهذا على إضمار فعل. ويقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة فى هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما فى قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذى يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذى ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله.الثامنة:
قوله تعالى: (رَبِّ الْعالَمِينَ) أى مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك،
وفى الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال فى غيره إلا إضافة، وقد قالوه فى الجاهلية للملك.
التاسعة:
قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم، لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك فى القرآن، كما فى آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار فى كل حال.
واختلف فى اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ) فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها، فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.
العاشرة:
متى أدخلت الألف واللام على رب اختص الله تعالى به، لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، فالله سبحانه رب الأرباب، يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورزقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئا دون شىء، وصفه الله تعالى مخالفة لهذه المعانى، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.الحادية عشرة:
قوله تعالى: (الْعالَمِينَ) اختلف أهل التأويل في (الْعالَمِينَ) اختلافا كثيرا، فقال قتادة: العالمون جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم.
وقيل: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، لقول تعالى (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) أى من الناس.
الثانية عشرة:
يجوز الرفع والنصب في (رب) فالنصب على المدح، والرفع على القطع، أى هو رب العالمين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة