هذا الكتاب يعتبر موسوعة فى تفسير القرآن الكريم، وهو من كُتب التفسير التى عُنيت بالأحكام، مع الاهتمام ببيان أسباب النزول، وذكر القراءات، واللغات ووجوه الإعراب، وتخريج الأحاديث، وبيان غريب الألفاظ، وتحديد أقوال الفقهاء، وجمع أقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف، وقدم المصنف فيه من الاستشهاد بأشعار العرب، وقد نقل عمن سبقه فى التفسير، مع تعقيبه على من ينقل عنه، مثل: ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وإلكيا الهراسي، وأبى بكر الجصاص، وقد أضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، والإسرائيليات، وذكر جانبًا منها أحيانًا، كما رد على الفلاسفة والمعتزلة وغلاة المتصوفة وبقية الفرق، وذكر مذاهب الأئمة وناقشها، ويمتاز هذا التفسير عما سبق من تفاسير أحكام القرآن أنه لم يقتصر على آيات الأحكام فقط، والجانب الفقهى منها، بل ضم إليها كل ما يتعلق بالتفسير.
تفسير سورة الفاتحة
قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الكلام فى البسملة:
وفيها ثمانية وعشرون مسألة:
الأولى:
قال العلماء: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذى وضعت لكم يا عبادى فى هذه السورة حق، وإنى أوفى لكم بجميع ما ضمنت فى هذه السورة من وعدى ولطفى وبري. و(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مما أنزله الله تعالى فى كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام.الثانية:
قال سعيد بن أبى سكينة بلغنى إن على بن أبى طالب رضى الله عنه نظر إلى رجل يكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغنى أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التى فيها بسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري.
الثالثة:
روى الشعبى والأعمش أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكتب «باسمك اللهم» حتى أمر أن يكتب: «بسم الله» فكتبها، فلما نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} كتب «بسم الله الرحمن» فلما نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} كتبها.الرابعة:
روى عن جعفر الصادق رضى الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.الخامسة:
الصحيح من هذه الأقوال قول ماك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار لآحاد وإنما طريقة التواتر القطعى الذى لا يختلف فيه. قال ابن العربي: ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه. والأخبار الصحاح التى لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا فى النمل وحدها.السادسة:
اتفقت الأمة على جواز كتبها فى أول كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبى قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.السابعة:
قال الماوردى ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهى لغة مولدة، وقد جاءت فى الشعر، قال عمر بن أبى ربيعة:الثامنة:
ندب الشرع إلى ذكر البسملة فى أول كل فعل، كالأكل والشرب والنحر، والجماع والطهارة وركوب البحر، وإلى غير ذلك من الأفعال، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}... {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها}.التاسعة:
قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا. فمعنى: {بسم الله}، أى بالله. ومعنى: {بالله} أى بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتى لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.العاشرة :
ذهب أبو عبيد معمر بن المثنى إلى أن اسم صلة زائدة واستشهد بقول لبيد:الحادية عشر:
اختلف فى معنى زيادة اسم فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه.الثانية عشر:
اختلفوا أيضا فى معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدا بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان: الأول للقراء، والثانى للزجاج. ف {بسم الله} فى موضع نصب على التأويلين.الثالثة عشر:
{بسم الله}، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق فى اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإنها تحذف لقلة الاستعمال.. اختلفوا فى حذفها مع الرحمن والقاهر، فقال الكسائى وسعيد الأخفش: تحذف الألف.الرابعة عشر:
واختلف فى تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان، فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذى لا يكون إلا فى الأسماء.الخامسة عشر:
ايم، وزنه أفع، والذاهب منه الواو لأنه من سموت، وجمعه اسماء، وتصغيره سمى. واختلف فى تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذع، وقفل وأقفال، وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم بالكسر، واسم بالضم. قال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذ من سمت أسمى.السادسة عشر:
تقول العرب فى النسب إلى الاسم: سموى، وأنشئت اسمى، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء إسام.السابعة عشر:
اختلفوا فى اشتقاق الاسم على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل إنما سمى الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمى الكلام: الحرف والفعل، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل، فلعلوه عليهما سمى اسما فهذه ثلاثة أقوال.الثامنة عشر:
فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم فى أسمائه ولا صفاته، وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله فى الأزل بال اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقى بال اسم ولا صفة، وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم فى الخطإ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام فى الاسم والمسمى.التاسعة عشر:
ذهب أهل الحق فيما نقل القاضى أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك، وهو قول أبى عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم، فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق، فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل. قال ابن الحصار: من ينفى الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هى أوصاف الذات وهى غير العبارات وهى الأسماء عندهم. وسيأتى لهذه مزيد بيان فى البقرة والأعراف إن شاء الله تعالى.العشرون:
قوله: {الله} هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، لذلك لم يثن ولم يجمع، وهو أحد تأويلى قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أى من تسمى باسمه الذى هو الله. فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه.الحادية والعشرون:
واختلفوا فى هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا فى اشتقاقه وأصله، فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس.الثانية والعشرون:
واختلفوا أيضا فى اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لااشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فحاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم.الثالثة والعشرون:
زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنبارى فى كتاب الزاهر له: أن {الرحمن} اسم عبرانى فجاء معه ب {الرحيم}. وأنشد:الرابعة والعشرون:
واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للممتلئ غضبا. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس:الخامسة والعشرون:
أكثر العلماء على أن {الرَّحْمنِ} مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} فعادل الاسم الذى لا يشركه فيه غيره. وقال: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فأخبر أن {الرحمن} هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب لعنه الله فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كاذبا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل فى اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم، ذكره ابن العربي.السادسة والعشرون:
{الرَّحِيمِ} صفة للمخلوقين، ولما في: {الرَّحْمنِ} من العموم قدم فى كلامنا على {الرَّحِيمِ} مع موافقة التنزيل، قاله المهدوي.وقيل: إن معنى: {الرَّحِيمِ} أى بالرحيم وصلتم إلى الله، ف {الرَّحِيمِ} نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد نعته تعالى بذلك فقال: {لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن وبالرحيم، أى وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلتم إلى، أى باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابى وكرامتى والنظر إلى وجهي، والله أعلم.السابعة والعشرون:
روى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال فى قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما {الرَّحْمنِ} فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما {الرَّحِيمِ} فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وقد فسره بعضهم على الحروف، فروى عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال: «أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر منخلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة