الأسود العنسى يدعى النبوة
وتكمن قوة الأسود العنسى فى ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِى قومه الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس.
وكان الأسود العنسى يقيم فى جنوب اليمن داخل كهف خُبَّانَ من بلاد مذحج، يرى الناس الأعاجيب بفنون من الحيل، ويستهوى الناس بعباراته، فتنبأ ولقب نفسه "رحمن اليمن"، وكان يدعى النبوة ولا ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحى وهما: سحيق وشقيق أو شريق.
وقوى أمر الأسود العنسى بعدما انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدى وقيس بن مكشوح المرادى، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران وهو عامل المسلمين عليها، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مائة أو سبع مائة فارس معظمهم من بنى الحارث بن كعب وعنس.
وظل الأسود العنسى مدعيًا النبوية مدة ثلاثة أشهر، وفى رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف فى قلوب اليمنيين، وبخاصة الأبناء .
وجاء مقتله بمساعدة امرأة شهر بن باذان، التى تزوجها الأسود العنسى قهرًا وهى امرأة صالحة وذات دين، فراسلها ابن عمها فيروز الديلمى سرًّا لتعاونهم على قتل الأسود العنسي، فوافقت وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلل القواد الأربعة (فيروز الديلمى وداذويه وجُشَيش وقيس بن مكشوح) إلى قصر الأسود العنسى فى الليلة المتفق عليها، فقتلوه.
معركة جلولاء
بعدما دانت مدينة المدائن للمسلمين، أرسل عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبى وقاص بالاستمرار فى الغزو، وأمَّر سعد بن أبى وقاص على كل ما سيطر عليه المسلمون فى أرض فارس، وكان ذلك عام 16 للهجرة.
وأمر سعد بن أبى وقاص بأن يخرج جيشًا على رأسه هاشم بن عتبة بن أبى وقاص من المدائن إلى جلولاء، وهى على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا من المدائن، وهذه المنطقة ترك فيها يزدجرد الجيش الفارسى الذى كان معه فى المدائن، فترك بها ما يقرب من خمسين ألف مقاتل فارسى، واستطاع أن يجمع مددًا من المناطق الفارسية المحيطة به، فجمع من أذربيجان ومن أصبهان ومن منطقة الباب غرب بحر قزوين، وجمع من منطقة حلوان وما حولها حتى شرق نهر دجلة، فوصل العدد فى جلولاء إلى مائة وعشرين ألف مقاتل فارسى، وأمر عليهم مهران الرازى وكان قائد ميسرة الفرس فى القادسية، وكان قد هرب من القادسية ليدافع عن مدينة المدائن، ثم هرب إلى جلولاء، ليتولى قيادة الجيش الفارسى فى جلولاء.
ويتحرك الجيش الإسلامى بقيادة هاشم بن أبى عتبة بن أبى وقاص إلى جلولاء فى أواخر شهر ربيع الأول أو أوائل شهر ربيع الآخر، وبذلك مكث الجيش الإسلامى الشهر ونصف الشهر فى المدائن قبل الخروج لجلولاء، وخرج المسلمون فى اثنى عشر ألف مقاتل على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميسرة سعر بن مالك، وعلى الميمنة عمر بن مالك، وعلى المؤخرة عمرو بن مرة، ووصل الجيش الإسلامى إلى جلولاء فى أربعة أيام، وعسكر قبل جلولاء بقليل.
ولما وصل المسلمون إلى جلولاء وجدوها شديدة الحصانة لأهل فارس، فهى عبارة عن حصن كبير جدًّا، يحوط به سور عالٍ، وبداخل الحصن يعسكر كل الفرس، وخارج الحصن خندق كبير لا تعبره الخيول، ثم أرض فضاء أمام الخندق، ثم حسك الخشب. والحَسَكُ: من أَدَوات الحَرْب (خوازيق مدقوقة فى الأرض على مسافات متقاربة)، رُبَّما يُتَّخَذُ من حديدٍ فيُلْقَى حَولَ العَسكر، ورُبَّما اتُّخِذَ من خَشَبٍ فنُصِبَ حولَ العسكر.
ولا تستطيع الخيول العَدْوَ فى الحَسَك المدسوسة خارج حصن جلولاء، ومن الناحية الغربية من حصن جلولاء أحد فروع الأنهار الصغيرة تحمى هذه المنطقة، والأرض الفضاء الموجودة بين الحصن وبين حسك الخشب على مرمى سهام الفرس، فكانت هذه المنطقة فى غاية الحصانة وبداخلها مائة وعشرون ألفًا من الفُرْسِ على رأسهم مهران الرازي.
وصل المسلمون إلى هذه المنطقة وبدأ هاشم بن عتبة بن أبى وقاص حصار مدينة جلولاء، ولم يستطع الدخول بجيشه إلى داخل الحصن لوجود الحسك والخندق، وكان الأعاجم يخرجون على المسلمين من طرق أعدُّوها لا يوجد بها الحسك فينابذوهم، وهذا الوقت هو الوقت المتاح لتقدم المسلمين؛ لأن الفرس لا يستطيعون رمى السهام لتلاحم الجيشين، ومن وقت لآخر تخرج فرقة من الفرس فتنابذ المسلمين فيتقدم لهم القعقاع بن عمرو فى المقدمة فيهزمهم، وما زال المسلمون محاصرين الخندق، وسيضطر الفرس يومًا للنزول؛ فحتمًا سينفد الزاد، وكان هدف الفرس من تتابع الفرق التى تنابذ المسلمين أن ينفد صبر المسلمين، ورغم ما بين المسلمين والفرس من منابذات إلا أن المسلمين تجلَّدوا وصبروا لهم، وزحف الفرس على المسلمين ثمانين زحفًا، واستمر الحصار حول جلولاء سبعة أشهر أو يزيد، مع أن المسلمين حاصروا بَهُرَسير إحدى المدائن شهرين، وفتحت المدائن مباشرة دون حصار، واستمرت موقعة القادسية أربعة أيام، ويبقى حصن جلولاء سبعة أشهر؛ وذلك لمنعته وقوة حصانته.
وصبر المسلمون وصابروا أهل فارس على الحصار، وصبر الفرس المحاصَرُون سبعة أشهر على الحصار وعلى قتال المسلمين، حتى زاد الأمر مشقة على الطرفين؛ فقد بلغ الجهد مبلغه بالمسلمين والفرس، فأخرج الفرس فى يوم من الأيام قوة ضخمة لحرب المسلمين، فتقدم إليهم القعقاع بن عمرو فى مقدمة الجيش الإسلامى، ودار القتال من الصباح حتى المساء، واستمر القتال حتى بعد غروب الشمس، وفى هذه اللحظة يصل ستمائة جندى مددًا للمسلمين، وكان من بينهم طليحة بن خويلد الأسدى وعمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح، ولهؤلاء الثلاثة بأس شديد فى القتال فزادوا من قوة وبأس المسلمين فى القتال، واستمر القتال فى الليل، وكانت هذه أول مرة بعد موقعة القادسية يستمر القتال فى الليل، وكان القتال فى موقعة القادسية على أشُدِّه فى الليل فى ليلة الهرير، ويشبِّه الرواة ليلة القتال فى جلولاء بليلة القتال فى الهرير فى موقعة القادسية.. وفى النهاية انتصر المسلمون.