بقدر ما يمنح العرس الكروى الأفريقى البهجة لكل عشاق اللعبة الجميلة فى العالم فإن هذا العرس الذى يختتم على المستطيل الأخضر المصرى بعد غد الجمعة يقدم إجابات على أسئلة فى ثقافة الساحرة المستديرة الكونية، التى تشهد فى السنوات الأخيرة محاولات مثيرة للجدل "لبرمجة اللعبة وقولبتها فى معادلات رياضية"، فيما تثير اللعبة أيضا مشاعر الحنين أو "النوستالجيا" لدى أجيال تنظر لكرة القدم كمرادف للبهجة البريئة بعيدا عن التحليلات الإحصائية والحسابات الفيزيائية.
وعلى إيقاع الساحرة المستديرة ومع اقتراب لحظة اختتام العرس الكروى الأفريقى فى أرض الكنانة تتصاعد المشاعر الدافئة والحميمة لعشاق الساحرة المستديرة وهم يستعدون لوداع واحدة من أهم البطولات الكروية فى العالم.
ومع مشاهد للعبة الجميلة فى الملاعب المصرية التى استضافت النسخة الثانية والثلاثين لبطولة كأس أمم أفريقيا فإن هذه المشاهد فى تلك البطولة الكبيرة ستتحول إلى جزء عزيز من ذاكرة الساحرة المستديرة وصفحة مضيئة فى لعبة لها عشاقها فى كل مكان حول العالم وكثير منهم يشدهم الحنين للقطات ومشاهد مبهرة على المستطيل الأخضر.
وإذ يرى خبراء فى التحليل النفسى بالغرب مثل ايليز كرامير - أن اسئلة الحنين بما فى ذلك تلك التى ترتبط بكرة القدم تستعيد غالبا وجوها ومشاهد وصورا ومواقف، فيما تفرض هذه الأسئلة نفسها على الذاكرة للأشخاص الذين ينتمون لفئات عمرية تبدأ من سن العشرين وحتى سن التسعين فإن السينما لم تكن بعيدة عن "الحنين فى عالم الساحرة المستديرة".
وآخر تجليات تلك الظاهرة ذلك الفيلم الوثائقى الجديد عن النجم الأسطورى الأرجنتينى دييجو مارادونا والذى عرض فى الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائى وبدأ عرضه تجاريا فى دور السينما بالغرب فى شهر يونيو الماضى ليحظى بإقبال كبير من جماهير لم تنس بعد إبداعات الساحر مارادونا وأجيال جديدة تدرك أن هذا الساحر أسطورة من أساطير الساحرة المستديرة.
وهذا الفيلم الوثائقى يتناول "سنوات مارادونا فى فريق نابولى الإيطالي" بين عامى 1984 و1991 وفوزه مع منتخب الأرجنتين بكأس العالم لكرة القدم فى عام 1986 حتى غروب شمسه بفعل عجزه عن الصمود أمام الضغوط وعوامل الغواية الغلابة أحيانا.
وليس هذا الفيلم الوثائقى الذى أخرجه المخرج البريطانى الجنسية اصف كاباديا هو الأول عن الأسطورة مارادونا فقبل نحو عشر سنوات قدم المخرج البوسنى الأصل أمير كوستوريكا فيلما عن "السوبر ستار الخالد فى تاريخ الساحرة المستديرة" يبدأ بقول مأثور للكاتب والشاعر الأرجنتينى العظيم خورخى لويس بورخيس وينتهى بأغنية للمطرب الفرنسى والأسبانى الأصل مانو شاو.
وبصرف النظر عن مقارنات تثيرها مثل هذه الأفلام فى الأذهان بين عظماء الساحرة المستديرة فى أجيال متعددة كمارادونا وبيليه وبوشكاش وبيكينباور وكرويف وجورج بست وصولا لليونيل ميسى وكريستيانو رونالدو ومحمد صلاح فمثل تلك الأسماء تشكل فى الواقع أجمل ذكريات اللعبة الجميلة والأبطال فى اللعبة الأكثر شعبية بالعالم.
ولأن مسألة الحنين لها انعكاساتها ونتائجها الهامة حتى فى عالم التسويق وترويج المنتجات واستمالة المستهلكين فإنها باتت موضع دراسة من جانب علماء وخبراء ينتمون لحقول ومجالات معرفية متعددة مثل البروفيسور تيموثى بورك أستاذ التاريخ بكلية سوارثمور فى بنسلفانيا بالولايات المتحدة الذى يقول فى سياق دراسة نشرتها مجلة "سيكولوجى توداى" إن سن العشرين عادة مايكون بداية مرحلة بناء الخيارات المستقلة لأى شخص وغالبا ماتبقى تلك الخيارات حتى نهاية العمر.
وفى متاجر الأدوات الرياضية بدول الغرب ستجد بعض هذه المتاجر قد خصصت ركنا يحوى العديد من المنتجات المرتبطة بالذاكرة الكروية فى تلك الدول من صور وقمصان لاعبين وميداليات وشعارات منقوشة بل وأنواع متعددة من كرة القدم تعكس تطورها المادى وأفكار المصممين للساحرة المستديرة.
وإذا كانت بعض المتاحف الرياضية والملاعب فى الغرب تشكل بحق حافظة الذاكرة وتجسد الحنين للأيام الخوالى فى كرة القدم فإن الملاعب المصرية التى استضافت مباريات البطولة الثانية والثلاثين لكأس أمم أفريقيا ستبقى فى ذاكرة عشاق اللعبة الجميلة فى القارة الأفريقية والعالم ككل.
والعرس الكروى الأفريقى على المستطيل الأخضر المصرى يسهم فى الإجابة عن أسئلة مستمرة وتثير جدلا فى عالم الساحرة المستديرة مثل ذلك السؤال الذى يفاضل بين المتعة والفوز لفريق ما، فيما شهدت البطولة الأفريقية الحالية منتخبات قدمت المتعة وحققت الفوز معا.
وهذه الأسئلة تأتى فى وقت يتغير فيه المشهد الكروى الكونى بسرعة لافتة حتى على مستوى الكتب التى تتناول شؤون وشجون كرة القدم وتشهد اتجاها واضحا نحو مايعرف "بالكتب المسموعة" مع تصاعد فى الاهتمام بالتحليلات الإحصائية ولغة الأرقام.
ومن هذه الكتب ذلك الكتاب المسموع لشيست ديوجر كمؤلف وجيم كاسيدى كسارد أو متحدث وصدر بعنوان "تحليلات كروية" وهو كما يشير عنوانه الفرعى يركز على "تقييم الآداء والتكتيكات ومسألة إصابات اللاعبين وتشكيل الفريق عبر تحليلات للبيانات والإحصاءات" بغرض تطوير الآداء وتعزيز ثقافة الفوز كما يتجول مع جديد أفكار نخبة من المدربين واللاعبين.
ورغم أن لغة الأرقام والإحصاءات تثير ضيق من ينظرون لكرة القدم باعتبارها اللعبة الجميلة التى تعكر الحسابات والإحصاءات صفوها ومتعتها فإن هذه اللغة فرضت نفسها على معادلات الكرة الحديثة وباتت البيانات المحسوبة بدقة ظاهرة حاضرة سواء على مستوى التدريب أو اللعب.
ويوضح الكتاب أن هذه اللغة الإحصائية تقدم قاعدة آمنة وموثوق بها للمدربين واللاعبين معا لتحسين القدرات وتطوير المهارات بل ورفع منسوب اللعبة الجميلة وزيادة اللمسات الساحرة التى يهيم بها طربا عشاق الساحرة المستديرة.
وهذا الكتاب عمد لتحليل فنى لشتى مكونات ومراحل مباريات مهمة ويقدم أفكارا حول سبل الاستفادة من النظرة التحليلية الإحصائية لتطوير قدرات الفرق الكروية وتحسين الآداء بصورة تصاعدية على مدى أى مباراة ولكن هل تعنى ثقافة الحداثة برمجة الساحرة المستديرة وتحويل اللعبة الجميلة لنماذج إحصائية صماء وحسابات رياضية باردة مثلما فعل كريس اندرسون ودافيد سالى وهما مؤلفا كتاب صدر بعنوان "لعبة الأرقام :لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!".
فهذا الكتاب بنزعته الواضحة نحو "برمجة الساحرة المستديرة وتحويلها لنماذج رياضية وإحصائية" يتصادم مع أجواء يحبها عشاق اللعبة الجميلة والذين يبحثون عن متعة الآداء بعيدا عن الأرقام أو البيانات ومع ذلك فهو يثير سؤالا مهما فى سياقات مايعرف بكرة القدم الجديدة "هل يمكن للساحرة المستديرة أن تتعلم شيئا من عالم الأرقام والإحصاءات أم أن هذا العالم بأرقامه وتحليلاته الإحصائية ونماذجه الحاسوبية يفسد اللعبة ويجعلها فى الحقيقة "منزوعة البهجة"؟.
وفى كتاب"لعبة الأرقام: لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!" يناقش كريس اندرسون ودافيد سالى طرفا من هذه القضية حيث بات علماء الرياضيات على تماس مباشر مع الملاعب والرياضة لا كما تعشقها الجماهير وإنما عبر الرياضيات بصرامتها وجديتها وأرقامها الجافة.
ودافيد سالى هو عالم متخصص فى نظريات السلوك الاقتصادى ويحب أن يصف نفسه بأنه "محدث كرة قدم"، أما كريس اندرسون فهو أستاذ جامعى فى العلوم السياسية وكان من قبل يلعب كرة القدم فى دورى الدرجة الرابعة الألمانى وهاهما يثيران الكثير من الأسئلة فى هذا الكتاب عن لعبة الأرقام والإحصاءات وبناء النماذج الحسابية الرياضية فى عالم الساحرة المستديرة.
فثمة اتجاه واضح بالفعل فى الغرب "لبرمجة الألعاب الرياضية ومزجها بالرياضيات" وبحيث يكون المدرب أو الإدارة الناجحة فى هذه الحالة هى الأكثر براعة فى بناء النماذج الإحصائية والقيام بتحليلات رياضية يعول عليها فى الفوز.
وفى كتاب"لعبة الأرقام: لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!" فإن المعنى الذى يزعج عشاق اللعبة الجميلة كما عرفتها أجيال تلو أجيال أن اللاعبين أنفسهم يمكن أن يتحولوا لشيء أقرب للإنسان الآلى أو الروبوت.
ولا جدال أن كل هذا السيل من الأرقام ينزع البراءة عن لعبة اقترنت بكثير من البراءة عبر تاريخها المديد ويؤدى لتآكل البهجة فى عالم الساحرة المستديرة وكرة القدم على وجه الخصوص تختلف عن كثير من الألعاب الرياضية الأخرى.
وهناك فى الولايات المتحدة من يسمونهم بسحرة الأرقام والذين يختزلون لعبة البيسبول بكل شعبيتها لدى الأمريكيين لمجموعة من الجداول والأرقام التى تتصادم بجفافها وغلظتها مع مشاعر دافئة من الحماس والرغبة فى المتعة لدى مشجعى هذه اللعبة الذين لايعنيهم كثيرا فى الملاعب النظريات الجديدة فى الرياضيات الحديثة لعلماء جامعة اوكلاند.
ولم تتردد هوليوود فى التقاط هذا الخيط لتصنع منه فيلما سينمائيا بعنوان "مونيبول" عن قصة حياة أحد نجوم لعبة البيسبول فى الولايات المتحدة الأمريكية وهو بيلى بين الذى تحول لعالم الإدارة فى هذه اللعبة بعد أن كان أحد نجومها فى الملعب.
وعندما فقد أبرز لاعبيه فى فريقه المتواضع بانتقالهم لأندية كبيرة من أجل الأجور الطائلة يقرر بيلى بين اللجوء لعالم الأرقام ونظرياتها وخبراء الرياضيات والتحليلات الإحصائية والحاسوب ويحقق بالفعل نتائج رائعة، لكنه يثير غضب عشاق اللعبة الذين لايقبلون هذا المفهوم الجديد بأرقامه وتحليلاته الإحصائية المتصادم مع المتعة الحقيقية للعبة.
وكرة القدم تحتلف أيضا عن لعبة البيسبول من حيث صعوبة "قولبتها أو برمجتها وتحويلها لنماذج رياضية وتحليلات إحصائية بسبب طبيعة الساحرة المستديرة وخاصيتها الأصيلة فى صعوبة التنبؤ على وجه اليقين بنتائج مبارياتها"، لكن ذلك كله لم يفت فى عضد هؤلاء الساعين "لبرمجة الساحرة المستديرة" وتحويلها لنماذج إحصائية مثلما فعل كريس اندرسون ودافيد سالى فى كتابهما "لعبة الأرقام" الذى تضمن تحليلات لـ 8232 مباراة فى بطولات الدورى الكبرى بدول أوروبية مابين عامى 2005 و2011.
وبناء على التحليلات الإحصائية يؤكد المؤلفان على عدم صحة مقولات ترددت طويلا حتى باتت من الأمور المسلم بها فى عالم الساحرة المستديرة مثل مقولة "أن الفريق الذى يسدد أكثر على مرمى الفريق المنافس تزيد فرصه فى الفوز وكذلك مقولة أن الضربات الركنية لأى فريق تعنى زيادة فرصه فى تسجيل أهداف".
والحقيقة أيضا أن هذا الاتجاه ليس وليد اليوم وإنما يرجع لخمسينيات القرن العشرين عندما حاول تشارلز ريب الذى يصفه الكتاب "بالرائد فى برمجة كرة القدم وبناء نماذج إحصائية ورياضية للعبة" أن يفرض هذه الرؤية ونشر بالفعل طروحات له فى مطبوعة تحمل اسما دالا فى هذا السياق وهو:"تحليلات المنافسة".
وبالتأكيد الكثير من المدربين فى الغرب يرفضون أو يتحفظون بشدة هذا الاتجاه وعلى حد ماورد فى هذا الكتاب فإن أحدهم قال إن "الكمبيوتر لايستطيع قياس مشاعر اللاعب أو سبر أغوار روحه قبل أى مباراة" ومدرب آخر صاح بغضب "أن على أصحاب هذا الاتجاه الغريب أن يحتفظوا لأنفسهم بنماذجهم الإحصائية وقوالبهم المبرمجة وأرقامهم وحساباتهم الرياضية ".
ولن يختلف الأمر كثيرا مع كتاب آخر صدر بعنوان :"سنكون أبطال كأس العالم..الفيزياء وكرة القدم" للبروفيسور متين طولان أستاذ الفيزياء بجامعة درتموند وهو ابن عائلة تركية مهاجرة لألمانيا، فيما يرى أنه إلى جانب الحس والشعور والرغبة فى الانتصار هناك عوامل ذات صبغة علمية بحتة مثل الخواص الميكانيكية للحركة والبصريات والحركة الديناميكية والقوة البدنية وهى عوامل قد تلعب الدور الحاسم فى إحراز النصر على المستطيل الأخضر.
ورغم تخصصه العلمى الدقيق فإن متين طولان الذى ولد عام 1965 عاشق كبير لكرة القدم ومتحمس بشدة لمنتخب الماكينات الألمانية ومن ثم فقد طرح المؤلف نظريات وآراء علمية اعتبر أن تطبيقها على المستطيل الأخضر يكفل للمنتخب الألمانى الفوز بالمونديال.
ويذهب متين طولان إلى أنه قام فى مونديال 2006 الذى استضافته ألمانيا، بوضع قواعد لصيغة علمية تضمن لمنتخب الماكينات الفوز ولكن خطأ غير مقصود حال دون ذلك، فيما يحفل الكتاب بالحسابات الفيزيائية التى ربطها بكرة القدم واستخدم المعادلات الرياضية والحسابات لقياس سرعة الركلات، فضلا عن قياس مقاومة الهواء لدفع الكرة واستدارتها.
ومع التسليم بأهمية الاستفادة من كل جديد فى العلم والتقنية فهذا الاتجاه المفرط فى التحليلات الإحصائية والحسابات الفيزيائية والمعادلات الرياضية يتعارض فى منظور الكثير من النقاد الكرويين حتى فى الغرب مع حقائق وجماليات كرة القدم.
ومثل هذا الاتجاه المسرف فى محاولات برمجة الساحرة المستديرة وقولبتها فى معادلات رياضية لاينسجم مع "كرة القدم الأفريقية الدافئة" والمزيج الكروى العذب الجامع بين الفوز وجمال الآداء كما يتجلى فى العرس الكروى الأفريقى على المستطيل الأخضر المصرى والذى أثبت مجددا أن أحدا لايعرف الفائز أو الخاسر قبل أن يطلق الحكم صافرته إيذانا بنهاية المباراة وهى حقيقة تشكل وجها أصيلا للجمال والتشويق فى اللعبة الجميلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة