لا يتوقف الكلام عن النص القرآنى، دراسة وتفسيرا وتأويلا، فمنذ أن صار كلام الله بين دفتى مصحف وإلى الآن، نقرأ فى كل يوم فكرة جديدة ونطالع كتبا متعددة تناقش الوحى والنص، وتبحث فى المعنى وأسباب النزول، ومن الكتب المتعلقة بذلك "الحداثة والقرآن" لـ الكاتب المغربى سعيد ناشيد.
ويقول الكتاب "إنّ القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيانيّة، التى لها مصدر إلهى وربّانى بالفعل، غير أنها ترجمة أنجزها الرّسول نفسه فى خطاب وجّهه إلى الناس فى تلك العصور القديمة الماضية وفق ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم، لهذا السبب، لا يجوز لنا بأى حال من الأحوال أن نقيِّم القرآن بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان، ولا يجوز لنا أن نتعامل معه كنصّ فى العلم أو السياسة أو الأخلاق، وإذا فعلنا ذلك فإنّنا سنقترف جرماً كبيراً، وسنظلم القرآن ظلماً عظيماً، كما يحاول أن يفعل بعض الذين يقدّمون تفسيرات لبعض الاكتشافات العلمية عن طريق ربطها بالقرآن، مثل الحديث عن الذرّة والكواكب والاكتشافات الطبّية، وغير ذلك، وهى اكتشافات معرّضة للتجاوز عن طريق اكتشافات جديدة تُخطّئها أو تنفيها، وتجعل القرآن الكريم الذى هو خطاب تعبّدى عرضة لتأويلات متهافتة تدّعى لنفسها العلم فى حين أنها لا تتسق أبداً مع شروط العلم، بل هى تأويلات تضع القرآن فى مواضع تقلّل من قيمته مدّعية تأكيد ما جاء فيه، وهو عمل لا يطلبه الخطاب القرآنى نفسه، القرآن الكريم خطاب تعبّدى خالص، وهذا يكفى لمن يملك إيماناً سوياً وحسّاً سليماً".
ويقول الكتاب، أيضا: يعبر القرآن الكريم عن ثلاث قضايا متفاوتة، لا يجوز بأى حال من الأحوال أن نستمر فى الخلط بينها، أولا قضة الوحى الإلهي، ثانيا قضية القرآن المحمدى، ثالثا، قضية المصحف العثمانى.
ويفسر ذلك: إننا نعتبر قضية الوحى الإلهى بمثابة قضية منفصلة ومستقلة عن قضية القرآن المحمدى، فالقرآن خطاب لغوى قام به النبى القرشى للصور الوحيانية، خضع فى كل صوره وأطواره للظروف الذاتية والموضوعية لشخصية الرسول عليه السلام.
والمقصود بالظروف الذاتية، كل ما يتعلق بمزاج وثقافة وشخصية وانفعالات الرسول، وهذا ما يفسر التفاوت العاطفى والانفعالى والنفسى بين مختلف آيات وسور الخطاب القرآنى.
والمقصود بالظروف الموضوعية، كل ما يتعلق عموما بأسباب النزول وسياق التنزيل وملابسات الأسئلة، والظروف الواقعية والتاريخية، وهذا ما يفسر اختلاف الأحوال وتضارب الأحكام واشتباه المعانى واحتمال الأوجه.
وهناك أيضا قضية المصحف العثمانى من حيث إنها قضية منفصلة ومستقلة فى الزمان والأحوال، وفى المضامين والأشكال، عن قضية الوحى الربانى بكل تأكيد، وأيضا عن قضية القرآن المحمدى على وجه التحديد، وهى ثمرة اجتهاد تاريخى أنجزه المسلمون على مدى سنوات طويلة.
وفى مقدمة الكتاب يقول سعيد ناشد:
أحاول فى هذا الكتاب أن أستلهم مقاربات كل من الفارابى وابن عربى وسبيوزا لمفهوم النبوة، وكذلك أستلهم آراء عدد من المصلحين أمثال عبد الكريم سروش ومحمد الشبسترى وأحمد القبانجى، وأيضا أستثمر بعض المفاهيم والتصورات التراثية التى صاغها جورج طرابيشى فى مشروعه النقدى، وقبل هذا وذاك أعتمد أساسا على علماء القرآن القدماء (السيوطى والقرطبى والسجستانى وغيرهم) وصولا إلى بعض المستشرقين على رأسهم تيودور نولدكة، لكى أستنتج فى الأخير أطروحة متكاملة قد تساعدنا على إعادة بناء العلاقة مع النص القرآنى على أساس تعبدى قد يساهم فى طمأنينة النفس، بعيدا عن أى توظيف سياسى أو تحريضى أو إيديولوجى قد ينتج البغضاء والطغيان والتطرف.
أما كيف تلقى القراء الكتاب الذى صدرت طبعته الأولى فى عام 2015، فاعتمادا على موقع "good reads" فإننا نجد آراء مختلفة فى ذلك، متنوعة بين الهجوم والدفاع، والاتفاق والاختلاف:
مثلا، يقول Araz Goran على الموقع:
ويستمر مسلسل الهجوم المتعمد على القرآن الكريم، وكما تعودنا أن نرى ذلك فى السنوات الماضية، يقودهم ملاحدة عرب ومسشرقون والمدعون المزيفون لمنهج الإصلاح الدينى فى الإسلام، تارة بإثارة شبهات مزعومة ومفضوحة وتارة أخرى بتكذيب الإعجاز اللغوى فى آيات الكتاب العزيز وأحياناً بدعوى أن المصحف العثمانى ليس هو القرآن الذى أنزل على محمد".
بينما كتبت "أسماء يحيى" تقول:
بكل تأكيد القرآن مخلوق كما أكد المعتزلة قديماً، فهو فى بدئه ومنتهاه، وحى إشارى تلقاه نبى، ثم تمثله وفق تصوراته، ثم تأوله تبعاً لثقافته، ثم صاغه فى شكل عبارات بحسب المتاح اللغوى والمفاهيمى لديه، ثم دونه المدونون باعتماد أدوات بعيدة عن الدقة (عظام وأرواق أشجار وصفائح حجرية) ثم جمع أول الأمر كيفما أمكن.
فالقرآن هو كلام أنشئ بلغة أنشأها البشر، فقد كتبت المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية فتسرب كثير من الهفوات والهنات النحوية إلى مصحف عثمان.
إذاً ليس الخطاب القرآنى خطبة إلهية نزلت من السماء، جاهزة، وألقيت على السامعين كما أنزلت بالتمام، إنما القرآن إبداع تمثلى وتأويلى أنجزه الرسول من الطاقة الوحيانية التى تملكها، وفى سياق نفسى واجتماعى وثقافى محدد.
فجاءت متفاوتة فى الدقة التعبيرية والإتقان البلاغى، إنه التفاوت الذى نتجت عنه مرتبتان من مراتب التنزيل، هما بحسب التعبير القرآني: (آيات محكمات) تمثل النواة الصلبة للقرآن، و(آيات متشابهات).
بينا رأى Mohammed Hmood
رغم إعجابى الشديد بأغلب محتوى الكتاب إلا أننى أجد بعض الثغرات التى يمكن تلخيصها بما يلى:
1. لجوء المؤلف إلى الاستناد على الأحاديث والروايات فى حالة عجزه عن إيجاد ما هو مناسب فى طرحه لقضية معينة.
2. إن تلك الأحاديث والروايات هى مصادر السنة، وعدم الالتفات لمصادر الطوائف الأخرى، لاسيما الشيعة.
3. حاجة بعض القضايا المطروحة إلى عدد أكبر من الإثباتات والشرح.
بينما قال Simo Ibourki:
ما يفعله المفكرون العرب عادة عندما يحللون الإسلام هو نقد كل ما هو سيرة وأحاديث وفقه دون المساس بالقرآن، هذا الكاتب تجاوز هذا الحاجز ليحلل القرآن والوحى تحليلا عقلانيا حداثيا على ضوء الآراء الفلسفية. الكتاب مشروع فلسفى ولاهوتى بامتياز يحاول فيه ناشيد إنقاد الإسلام "الفطرى" من كل الشوائب التى علقت طوال الأربعة عشر قرنا الماضية، ليختزل الإسلام فى جملة واحدة والتى يراها الكاتب جوهر الإسلام: لا إله إلا الله، ويرى الكاتب أن هذا التوحيد هو الذى سيجعل الإسلام قابلا للتعايش مع متطلبات الحداثة فى القرن الواحد والعشرين. أظن أن ما يريد الكاتب هو إبعاد الله وتنزيهه عن كل ما هو أرضى وإنساني، بحيث يصبح الله فى هذا الإسلام الفلسفى الذى ينادى به ناشيد أقرب منه إلى الربوبية اللادينية والصوفية أكثر منه إلى الإسلام التقليدى.
يذكر أن سعيد ناشيد باحث وكاتب مغربى مهتم بقضايا التجديد الدينى، ومن بين كتبه:" الحداثة والقرآن" و"قلق فى العقيدة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة