كان «أردوغان» يُخطِّط لمحو الأكراد من حدوده الجنوبية، لولا تدخُّل الولايات المُتّحدة وإنذارها النظام التركى. بحسب ما أكده الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، السبت الماضى، فى مؤتمر صحفى على هامش ختام قمة العشرين بمدينة أوساكا اليابانية.
تصريح «ترامب» الآن يبدو أكثر من كونه فخرًا بعملٍ إنسانىّ عابرٍ، إذ على الأرجح يحمل رسالةً راهنة، تتَّصل باستعداداتٍ أو تحرّكات تركيّة لتجديد التهديدات على المحور الكردى، السورى العراقى، إلى جانب طمأنة حُلفائه الأكراد، وتبديد المخاوف التى تسيطر عليهم منذ إعلان واشنطن أواخر العام الماضى سحب قوَّاتها من سوريا.
قرار الانسحاب أغرى السفَّاح التركى بتطوير المناوشات مع أكراد سوريا، والدفع بميليشياته لتكرار ما حدث فى «عفرين». وقتها زارت إلهام أحمد، رئيس مجلس سوريا الديمقراطية «الذراع السياسيّة لتشكيلات الأكراد المُسلَّحة» روسيا والولايات المتّحدة، وعبَّرت عن مخاوفها من الوقوع فريسةً لـ«أردوغان» ومُجرميه. ورغم أنَّها حصلت على تطمينات قوية، وقال لها «ترامب» فى فُندقه بواشنطن، إنه يُحبّ الكُرد ولن يتخلَّى عنهم، ثم كتب عبر «تويتر» أنه سيُدمّر تركيا اقتصاديًّا لو سعت للمَساس بالأكراد، ظلَّت المخاوف قائمةً، بالنظر إلى جرائم ميليشيات مجنون أنقرة ضد كُرد الداخل، وعلى حدود كردستان، وفى عُمق العراق!
يُمكن بقدرٍ ضيئلٍ من الجهد والتتبُّع، اكتشاف أن نظام أنقرة يكره الأكراد، ولا يُفوِّت فرصة لحصارهم أو التنكيل بهم فى كل مكان، وهو أمر لا ينفصل عن دوائر انتماء «أردوغان» الثلاثة: العرقية المنحازة للتركمان والشركس، والعثمانية الساعية لاستعادة ميراث قبائل الأناضول والانكشاريين، والإسلامية المُنطلقة من أرضية إخوانيّة تُوظِّف الميليشيات المُسلَّحة فى خدمة استراتيجيات أنقرة وأهدافها فى المنطقة.
ارتكبت عصابات السفَّاح التركى جرائم فادحة فى عفرين ومنبج السوريّتين، وفى الشمال العراقى ومُحيط أربيل، وفى ديار بكر وغيرها من مُدن كُردستان تركيا. وحدها تجمُّعات شمال غربىّ إيران لم تمتدّ يد «أردوغان» لقمعها، لأن نظام طهران يُشاركه مُعاداة الكُرد والخوف من حلم تأسيس دولتهم الكبرى!
حتى الآن، يخوض جيش العثمانيّين، صاحب التاريخ الطويل مع الدم وجرائم الإبادة، صراعًا مفتوحًا مع حزب العمال الكردستانى فى تركيا، ويسجن زعيمه عبد الله أوجلان منذ أكثر من عشرين سنة، بعد 21 عامًا من النفى الاضطرارى بين سوريا وروسيا وإيطاليا واليونان، قبل أن يُعتقل فى العاصمة الكينية نيروبى، ويُحكم عليه بالإعدام، ليُخفَّف الحُكم لاحقًا إلى السجن مدى الحياة، فى واحدة من مُناورات العصابة التركيّة مع الأكراد!
العداء التاريخى للكُرد تنامى بعد نجاح قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب فى هزيمة تنظيم «داعش»، وعدد آخر من الفصائل السُّنّية الشبيهة، وتلك كانت إحدى أوراق «أردوغان» للتدخُّل فى سوريا وفرض واقع جيوسياسى مُغاير، وكان مُتوقَّعًا أن يتصاعد إجرامه ضدهم، بعد إفسادهم المُخطّط وتبديد نتائج سنوات من دعم الإرهابيين وفتح الحدود لعبورهم وخدمتهم!
الأكثر إزعاجًا أن نجاح كُرد العراق «6 ملايين» فى الفوز بدولة شبه مُستقلَّة، فى إطار صيغة فيدرالية مُتوازنة مع بغداد، قد يُغرى أكراد سوريا وتركيا وإيران «28 مليونًا» بتصعيد المحاولات طمعًا فى تكرار النجاح، وهو أمرٌ حال حدوثه ستكون أنقرة الخاسر الأكبر فيه، بالنظر إلى احتضان تركيا قرابة 52% من إجمالى العرق الكُردى، بواقع 18 مليونًا يُمثّلون 22% من السكان ويسيطرون على 21 من إجمالى 81 محافظة بنسبة 26% تقريبًا من المساحة. وبالطبع لا يتحمَّل وريث سفَّاحى الأناضول كُلفةَ هذا الانفصال القاسى!
رُبّما يتطلّع «أردوغان» لتحويل مخاوف النزعات العرقيّة إلى فُرصٍ توسُّعية، وفى ذهنه لواء إسكندرون «ضعف مساحة العاصمة أنقرة» الذى سرقته تركيا من سوريا 1939، بتواطؤ من الانتداب الفرنسى، طمعًا فى ضَمّ قِطَط الأناضول الأليفة لدول الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، وطوال تلك العقود مارست جرائم مفتوحة ضدّ العرب والكُرد والأرمن الذين يُشكّلون أغلبية اللواء الكاسحة، بعدما مزَّقته إلى 12 محافظة. وتلك الجريمة القائمة حتى الآن لا تنفصل عن إجرام العثمانيين بحقِّ الأرمن بدءًا من 1915، فى عملية إبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من 1.5 مليون قتيل، تُضاف إليها مذابح «سيفو» التى أودت بحياة 500 ألف من السريان، ومذابح اليونانيين البنطيِّين التى أبادت 360 ألفًا. وكلّها من الأمور التى يفخر بها «أردوغان» وهو يُؤكّد بين وقت وآخر انتماءه لدولة «آل عُثمان»، ويمتدح ما يعتبره مجدًا وعظمةً فى تاريخهم القذر.
فَخر «أردوغان» بهمجيّة العُثمانيِّين يُلحقه بهم، ويُحمِّله جرائمهم، ليس فى المذابح التى أبادت قرابة ثلاثة ملايين، وإنما أيضًا فى آثار احتلال المنطقة العربية أكثر من 4 قرون، واستنزاف مواردها، وإراقة دماء شعوبها، ثم التواطؤ ببيعها وإقرار تقسيمها بين ذئاب الاستعمار، وُصولًا إلى مقايضة فلسطين بحفنة ذهبٍ من العصابات الصهيونية. وفضلاً عن أن تلك الأمور ليست مدعاةَ فخرٍ، وتُوجِب على ورثة تلك الدولة المُجرمة التنصُّلَ منها، لو كان فى أرواحهم ثُقبٌ واحدٌ غير مُلوَّثٍ، بما يكفى لأن ينفذ منه الضوء والهواء النظيف، فإنّ الصمت على استمراء «أردوغان» لخطاب أجداده السفَّاحين ومُمارساتهم، والحياد أمام محاولاته لإعادة إنتاج تلك الجرائم، بمثابة تجديدٍ للدم والإدانة، واعتراف من الدول التى تصمت الآن، بالشراكة فيما وقع قديمًا، والأخطر أنّه إنذارٌ قائمٌ بمذبحةٍ مُحتمَلة فى أىّ وقت!
رُبَّما يصدُق «ترامب» فى وعده، ولا يتخلَّى عن الأكراد، لكنّ «أردوغان» سيُواصل محاولات حصارهم فى سوريا والعراق، وداخل حُدوده، مدفوعًا بهوىً ترُكمانىٍّ أعمى، وروحٍ إخوانيّة طامعة، وعقلٍ ميليشيّاتى دموى، وحال تأخُّر العالم فى ترسيم حُدود الصراع، وتحجيم ضِباع الأناضول، فقد يختلّ التوازن العرقىّ، وتتبدَّد المراكز التاريخية والجغرافية لبعض مُكوِّنات المنطقة الأصيلة.
المُؤكَّد أن السفَّاح لن ينجح فى إبادة الكُرد، أو تعجيزهم، كما فعل أجداده مع الأرمن، لكنّ اتّصال الصمت قد يُوفِّر له فُسحةً لإعادة هندسة المنطقة، خصمًا من التوازن والمصالح الاستراتيجية والرصيد الحضارى، ليقف العالمُ شريكًا فى المظلوميّة من جديد، بينما يُسطِّر «أردوغان» صفحةً أحدث فى كتاب تركيا المُجرمة، ويضع مزيدًا من الوَحل على وجهها المُلطَّخ بالدم.