فاز الأفضل بدون شكّ، هذا لا يعنى أن منتخب جنوب أفريقيا قدَّم ما يشفع لسرقة مباراة مهمّة على أرضنا ووسط 75 ألفًا من جماهيرنا، وإفساد فرحتنا بالجهد الرائع الذى بذلته الدولة بكلّ مُؤسَّساتها، لكنّه يعنى فى المقام الأول وقبل كل شىء أنّنا كُنّا سيِّئين جدًّا، وأن العلامة الكاملة فى دور المجموعات لم تكن تعبيرًا حقيقيًّا عن مستوانا، وإنّما الخروج أمام ثالث المجموعة الخامسة هو ما نستحقّه، بفضيحة كبيرة، وجريمة تعرف أصحابها، حتى لو ادَّعوا البراءة أو حاولوا التهرُّب من المسؤولية!
لم يكن اختيار المكسيكى خافيير أجيرى لقيادة منتخب مصر مُوفّقًا منذ البداية. كان لاعب وسط مُتوسِّط المستوى والتاريخ، ومنذ احترافه التدريب قبل 25 سنة تقريبًا، قضى فى المنزل ستّة مواسم بدون عمل، وتولّى ثلاثة أندية فى المكسيك وأربعة فى إسبانيا، إضافة إلى موسم مع منتخب اليابان، وموسمين مُتباعدين مع المكسيك، استقال فى آخرهما بعد الخروج من ثانى أدوار كأس العالم 2010، وكانت محطَّته الأخيرة قبل مصر مع نادى الوحدة الإماراتى، ولم يسبق له الاحتكاك بالكُرة الأفريقية بأيّة صورة، وهى مسيرة لا تُؤهّله لأن يكون رهانًا رابحًا، أو مدخلاً لإصلاح ما أفسده هيكتور كوبر، ومُداواة الإخفاق والفضيحة اللذين عُدنا بهما من مونديال روسيا 2018، فضلاً عمّا يُحيط به من اتّهامات الفساد وبيع المباريات!
تولّى «أجيرى» منتخب الفراعنة قبل سنة تقريبًا، وبدا منذ اللحظة الأولى عاريًا من رؤيةٍ واضحة ومُتماسكة لتكوين الفريق وإدارته، ولا يملك حُلولاً فى ساحة اللعب. كلّ الأمور عشوائية وغير مُبرَّرة تمامًا، سواء فى اختياراته للاعبين، أو توظيف تلك الاختيارات لتحقيق كفاءة تكتيكية وفاعلية هجومية، وفرض شخصية المنتخب على المباريات. فى الحقيقة افتقد الفراعنة للشخصية الواضحة داخل الملعب، لذا كان طبيعيًّا ألّا يفرضوا ما لم يتوافر أصلاً!
الأكثر إزعاجًا وبؤسًا وفسادًا، أن المُدرّب الساذج الذى لا يملك ما يقدمه لمنتخب صاحب تاريخ، تصدَّر قائمة الأجور فى القارة بـ108 آلاف يورو شهريًّا «أكثر من مليون و200 ألف يورو منذ قدومه» مُتفوّقًا بفارق كبير على سلفه الفاشل أيضًا «كوبر»، الذى أوصلنا كأس العالم وفضحنا هناك بـ80 ألف يورو، ومُقتربًا من ضعف راتب ستيوارت باكستر الذى أطاح به بفريق كل إنجازاته لقب 1996 ووصيف 2000. والأكثر فداحة أن هذا الراتب يُعادل رواتب مُدرِّبى غينيا والكونغو وتونس وغانا من فئة الأعلى سعرًا، ويتجاوز رواتب نصف مُدرِّبى البطولة تقريبًا: كينيا وأوغندا وكوت ديفوار وأنجولا وتنزانيا وغينيا بيساو وزيمبابوى ومدغشقر وناميبيا وبوروندى مُجتمعين!
كان مجدى عبد الغنى يتدخَّل فى الفريق واختيارات اللاعبين، حسبما يتردّد فى الساحة وأروقة الاتحاد، رُبّما لأن «أجيرى» مكسور العين، سواء بالراتب المُرتفع، أو بالتغاضى عن سوابق فشله وفساده واتّهامه ببيع مباريات فى المكسيك وإسبانيا، وكان محمد صلاح يفرض رأيه على الجهاز والاتحاد، رُبّما لأن روائح الجبلاية تزكم الأنوف، فتجنّبوا أىَّ صدامٍ قد يُخرج كوارثهم إلى العلن. لا يُمكن استبعاد أن يكون المدير الفنى باع المباراة كما فعل من قبل، وتلك الشُّبهة تنسحب بالضرورة على مجلس الجبلاية، لأنهم اختاروه وتعاقدوا معه ومنحوه راتبًا ضخمًا رغم تفاهته وماضيه المُلوَّث، ولأن انبطاحهم أمام نجم ليفربول سببه ما حدث من فسادٍ فى كأس العالم، وما أُثير من ملفَّاتٍ رأوا أن يُغلقوها تمامًا، عبر إدارة الفريق بمنطق الشلَّة وجلسة المصطبة، وهكذا كانت عصابة الجبلاية تعمل طوال الوقت للأسف!
اللاعبون لم يكونوا أفضل أداء، أو أقل جُرمًا، من مديرهم الفنّى. فى الحقيقة كانت المنافسة بينهم جميعًا مُشتعلةً للغاية على إحراز القدر الأكبر من الفشل. بدت خطوط المنتخب مُهلهلةً ومُفكَّكة تمامًا، غاب الربط والتجانس، وتحرَّك الجميع بأقلّ قَدرٍ من الجهد الكُفء، وأقصى ما يُمكن من العشوائية والارتجال، وباختصارٍ فإنَّ الروافع التى يستند إليها الفريق ويُراهن عليها، لم تكن على قدر الرهان. بالقطع لا يستحقّون جميعًا شرف اللعب لمنتخب مصر، بمن فيهم محمد صلاح، الأغلى فى أفريقيا والكرة العربية، الذى بدا مُتعاليًا وبخيلاً ويلعب من «طراطيف مناخيره»، ولا يبذل عُشر جهده مع ناديه الإنجليزى.
بعيدًا عن الفريق ومديره الفنى، تقع مسؤولية الفضيحة بكاملها على عاتق اتحاد الكرة. ما يحدث فى الجبلاية يشى بروائح غير نظيفة وأمور لا تعلو على الشبهات. ركوب «صلاح» للفريق والإدارة والجهاز كان هروبًا من سوءات يُمكن أن يفضحها الصدام والتصعيد، واختيار «أجيرى» والتعاقد معه بهذا الراتب المُبالَغ فيه ينطوى على شُبهة فسادٍ أو مُجاملةٍ رخيصة، وبينهما سمسرةٌ تربَّح منها أحد وجوه الاتحاد، ويحتاج الأمر تحقيقًا جادًّا وسريعًا فى الحالين، خاصة أن دم الفضيحة فى كأس العالم لم يجفّ بعد، ولم يُحاسَب أحدٌ من أعضاء المجلس عن المهزلة وإهدار الأموال، وعن شبهات التربّح، وعن الاتهامات المُتبادلَة بسرقة الملابس، والتهديد العلنى بكشف المستور ونشر الفضائح، ومنع عضو بالمجلس من السفر ثمّ حضوره البطولة على نفقة الاتحاد، بعدما هدَّد رئيسه وقياداته!
أحمد مجاهد اتَّهم زُملاءه بالفساد، وقال صراحة فى مُشادة بفندق ماريوت قبل المباراة، إن عضوين بالمجلس يتربّحان من السوق السوداء للتذاكر، واعترف رئيس الاتحاد فى مؤتمر صحفى الأسبوع الماضى بأنّهم سمحوا بدخول جماهير بدون بطاقات المُشجِّعين، وإلى جانب تلك الشُّبهة نحتاج لمعرفة من حصل على عُمولات فى صفقة «أجيرى»، ومن حصلوا على تذاكر وملابس ومنافع خارج القواعد المعمول بها، ومن رتَّبوا مُعسكرات المنتخب، وحجم استفادتهم منها، ونحتاج أن نفتح ملف كأس العالم 2018 وما شابه من فساد وتربُّح وإهدار مال عام!
ما حدث ينطوى على شُبهات تحيط بكل أعضاء الاتحاد، حتى تثبت براءتهم، أعلاها الفساد وأدناها الإهمال والاستهتار وسوء الإدارة، ويصعب تجاوز الأمر بالاستقالة، والهروب بمصالحهم التى حقَّقوها، خاصة أنهم سيُعودون لاستكمالها فى أقرب انتخابات، وفق لعبة التربيطات وشراء الولاءات التى يجيدونها مع رؤساء النوادى، وكأنهم يسكبون الماء البارد كبُرودة دمهم وأرواحهم فوق نيران غضبنا المُتأجّج، لينتهزوا أقرب فُرصة للرقص فوق جُثّة الرياضة وصناعة الكُرّة مرّة أخرى، والحلّ أن تأخذ الأوراق والوقائع مسارها أمام جهات التحقيق، لننسب الاتّهامات لأصحابها، ونُعلِّق الأجراس فى رقابهم، أو نعرف المكاسب الخفيّة والأرباح التى يُحقِّقونها خارج القانون وحسابات المصلحة العامة.
صنعت الدولة المصرية حدثًا كبيرًا وفريدًا ومُدهشًا، بتصدِّيها لتنظيم البطولة قبل موعدها بأقل من خمسة شهور، وإخراجها بتلك الصورة البديعة التى لا تشوبها شائبة، لكن فى الخلفية يقف فريقٌ يُشبه الفطريات والبكتيريا، يعيش عالةً على ما يُنجزه الآخرون، ولا يكتفى بالظهور فى صورة مُشرقةٍ، أو اقتسام نجاحٍ لم يُشارك فى صنعه، وإنّما يتمادى بتبجُّحٍ وانعدام حِسٍّ ولِياقة، ليُفسد المشهد ويقف على رماده مُبتسمًا، ومُستعدًّا لجولة جديدة من الفشل والتردِّى. للأسف تكرَّر الأمر من قبل، ويبدو أنهم يُراهنون على مشاعرنا الوطنية، والتئامنا فى النوازل، ليهربوا بفضائحهم استعدادًا لتكرارها من جديد!
خرجنا من البطولة بصورةٍ مُؤسفة، وسيكتمل العُرس بدون المُضيف، لكن رغم هذا الخروج فإنّنا صنعنا مشهدًا مُشرقًا، كدولةٍ وشعب وجمهور، ومع الوصول إلى منصّة التتويج سنكون أبطالاً، بدون بطولة أو لقب، لكن بإنجاز حقيقى يشهد له الجميع، وحتى يكتمل الإنجاز علينا ألا نترك فئران السفينة بدون حساب، الفئران التى تلعب تحت الأقدام حاملةً وباء الطاعون، لتُسمِّم المَشاهِد وتُفسد الفرحة. إقالة المدير الفنّى ليست كافية، والطبطبة على اللاعبين الفشلة والنجوم البلاستيكية ليست حلاًّ، والرضا باستقالة مجلس الاتحاد لن يزيل الفضيحة أو يُصحِّح المسار. لا بديل عن فتح ملفات الجبلاية، والتفتيش فى دفاترهم وجيوبهم، ومقارنة ثرواتهم قبل المنصب وبعده، علينا أن نُراجع ذِمَمهم المالية، ونتقصّى شُبهات الفساد، ويقين إفساد الفرحة والعمل ضد الدولة، وأن نضع يدنا على السمسار الذى ورّطنا فى «أجيرى»، فليس عدلاً أن نُربِّى أغنياء حربٍ وسماسرة كوارث فى ملاعب الكُرة، وأن نبتلع الحسرة مع كل فضيحة على أيديهم، بينما تكبر كُروشهم وتمتلئ خُدودهم ويتبخَّر الدم من وجوههم، ليرقصوا فوق أحزاننا فى كلٍّ مرّةٍ بدون حياءٍ أو احترام!