"ثورة انتخابية".. عنوان يصلح ليكون محورا للحديث عن الانتخابات التونسية، والتى عقدت أمس الأحد، بسبب نتائجها المدوية، والتى أسفرت عن جولة إعادة بين مرشحين، لم يكن أحد يتوقع أن يكون لأى منهما دور فعال فى المنافسة على عرش قرطاج، خاصة بعد سنوات من الفوضى والتى بدأت فى عام 2011، أسفرت عن تغير عدة أنظمة، بدأت من نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن على، مرورا بالمنصف المرزوقى، ونهاية بالمرحلة الانتقالية التى تشهدها البلاد منذ رحيل الرئيس التونسى السابق الباجى قايد السبسى، والذى وافته المنيه قبل أقل من شهرين.
ولعل الملفت للانتباه عند قراءة نتيجة الانتخابات التونسية، أن المرشحان المتأهلان لجولة الإعادة، وهما قيس سعيد، ونبيل القروى، لا يمثلان أيا من الحركات السياسية أو الأحزاب التى قفزت على ظهر حقبة ما يسمى بـ"الربيع العربى"، والتى كانت تعد بمثابة انقلابا صريحا على النظام القائم منذ 2011، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لفشل الشعارات التى طالما رفعها النشطاء ومن خلفهم متسلقو الأحزاب السياسية، وعلى رأسهم حركة النهضة، والتى تعد الذراع السياسى لجماعة الإخوان فى تونس، لمخاطبة مشاعر المواطنين "غير المسيسين" الطامحين فى حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقا، مثلما فعلوا من قبل فى عام 2011، فى أعقاب رحيل بن على ونظامه.
صراع جديد.. انتخابات تونس تكتب نهاية "الربيع العربى"
يبدو أن نتائج الانتخابات التونسية تعكس صراعا سياسيا جديدا تتشكل ملامحه فى المرحلة الحالية، بين تيار جديد من غير المسيسين، ويمثله قيس سعيد، والذى لا يمثل أيا من الأحزاب السياسية، أو تلك الحركات التى خرجت من رحم "الربيع العربى"، من جانب، وتيار زمرة رجال الأعمال، والذى يمثله نبيل القروى، والذى يحظى بنفوذ كبير فى المجتمع التونسى منذ ما قبل 2011، بفضل امتلاكه للمال والمنابر الإعلامية التى يمكن تطويعها لخدمة أهدافه السياسية، والتى تمثل أحد الأسلحة التى اعتمدها المرشح الرئاسى، والذى قضى أيام حملته الانتخابية، فى غياهب السجون، عبر الدعاية المكثفة التى أطلقها من خلال قنواته.
قيس سعيد
وهنا يمكننا القول بأن الجولة الأولى من الانتخابات التونسية تمثل صفعة قوية لدعاة "الربيع العربى"، والذين خرجوا تماما من المعادلة السياسية فى تونس، والتى كانت بمثابة الشرارة التى اندلع منها بركان الفوضى فى المنطقة العربية بأسرها، لتترك تداعيات سياسية واقتصادية كارثية، أثرت على حياة المواطن العادى، بينما وضعت المجتمعات على حافة الهاوية لسنوات طويلة، وهو ما بدا واضحا فى المشكلات القائمة التى يشكو منها المواطنون، وعلى رأسها البطالة والغلاء.
ثورة التصحيح.. تونس تستلهم تجارب محيطها الإقليمى
وتعد النتائج المدوية التى شهدتها الانتخابات التونسية بمثابة امتدادا لما يمكننا تسميته بـ"ثورة التصحيح"، والتى سبق وأن أطلقها التونسيون فى عام 2014، عندما وصلت حالة عدم الاستقرار فى البلاد إلى الذروة، جراء التظاهرات والاحتجاجات التى أعقبت العديد من الاغتيالات التى استهدفت قطاع كبير من المعارضين التونسيين، والذين أبدوا امتعاضا كبيرا تجاه السياسات التى تبناها الإخوان، وعلى رأسهم السياسى التونسى البارز شكرى بلعيد، والذى كتب مقتله نهاية عصر "النهضة" المظلم، وهو الأمر الذى أدركه زعيمها راشد الغنوشى، مما دفعه إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة، أطاحت بجماعته من السلطة فى نهاية المطاف.
نبيل القروى
ولا يمكننا قراءة ما تشهده تونس من تطورات بعيدا عن محيطها الإقليمى، حيث تزامنت الموجة الأولى من "ثورة التصحيح"، مع العديد من التطورات الإقليمية، التى وإن اتسمت بتعارضها، فإنها قدمت النماذج المتاحة للمواطن التونسى، والذى يمكنه من خلالها تقرير مستقبله، عبر الاختيار بين الاستقرار أو الفوضى.
ففى مصر خرج الملايين فى ثورة شعبية ضد نظام "الإخوان"، لتبدأ مصر بعدها مرحلة جديدة من الاستقرار، تفتح الباب أمام خطوات إصلاحية، من شأنها تحسين الأوضاع الاقتصادية، بينما شهدت دولا أخرى، فى تلك الفترة، سيطرت التنظيمات الإرهابية، على مساحات واسعة من أراضيها، على غرار ما حدث فى سوريا والعراق، لتبدأ تلك الدول صراعا مسلحا، أودى بحياة الملايين، بينما فتحت أبوابها للتدخل الدولى فى شئونها، مما أعاق أى أمل فى تحقيق التنمية.
انتهاء عصر السياسة التقليدية.. الشعبوية تمتد للشرق الأوسط
وبعيدا عن التطورات الإقليمية، يبدو أن نتائج الانتخابات التونسية لم تخرج بعيدا عن العديد من المعطيات الدولية، والتى شهدت حالة من التمرد الشعبى على قواعد السياسة التقليدية، والتى تقوم فى الأساس على اعتماد الأحزاب السياسية، والتى كانت بمثابة الصك الذى يقدمه المرشح للمواطن، وهو ما يبدو واضحا فى العديد من دول العالم، والتى بدأ قادتها التنصل من أحزابهم، العمل على إعادة هيكلة رؤيتها، لتصبح أكثر تواءما مع رؤى المواطنين، وهو ما يبدو واضحا فى صعود التيارات الشعبوية، التى صارت تلعب دورا بارزا فى العديد من دول العالم الرئيسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ويعد تصدر قيس سعيد للجولة الأولى، بمثابة استمرارا لصعود التيارات الشعبوية، والتى لم تعد تقتصر على الغرب، ولكنها امتدت إلى دول الشرق الأوسط، فى ظل حالة انعدام الثقة التى تركتها الأحزاب السياسية فى أنفس المواطنين فى العديد من مناطق العالم، وفى القلب منها منطق الشرق الأوسط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة