لم يتبقى سوى 48 ساعة، وتنفصل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى، لتصبح السابقة الأولى فى تاريخ أوروبا الموحدة، التى تعلن فيه دولة أوروبية الانفصال عن الكيان القارى، منذ تأسيسه فى بداية الخمسينات من القرن الماضى، تحت مسمى المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، لينطلق بعضوية 6 دول، ليتوسع تدريجيا حتى يصل عدد أعضائه إلى 28 دولة، لثير الخروج البريطانى تساؤلات عدة ربما أبرزها عما إذا كان حلم الوحدة الأوروبية أصبح فى مهب الريح، فى ظل استلهام بعض الدول الأخرى للنموذج البريطانى، والسير على درب الانفصال فى المستقبل القريب.
التساؤل المطروح يبدو منطقيا إلى حد كبير فى ظل معطيات أبرزها، صعود التيارات اليمينية، إلى سدة السلطة فى العديد من دول أوروبا الغربية، وكذلك التحركات الأحادية، ولو على استحياء، فيما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية، والأمنية، فى ظل المخاوف المرتبطة بحالة التخلى الأمريكى عن الحلفاء الغربيين، سواء أمنيا أو اقتصاديا، لنجد أن ثمة حالة من الصراع الأوروبى – الأوروبى، ولدت من رحم الاتحاد الذى يحتفل بذكرى ميلاده السبعين فى العام المقبل، لكنها مازالت فى طور النمو.
ولعل التنافس بين دول القارة الأوروبية على استرضاء الولايات المتحدة، للفوز بثقتها، وربما دعمها يمثل أحد بوادر الصراع، فى ظل توتر علاقة واشنطن مع حلفائها التقليديين، وعلى رأسهم ألمانيا، وظهور دولا جديدة نجحت فى استقطاب إدارة الرئيس دونالد ترامب، على غرار دول أوروبا الشرقية، والتى تخطط لنقل قطاع كبير من قواعدها العسكرية إلى أراضيها فى المرحلة المقبلة، فى مؤشر صريح على تغير أجندة التحالفات الأمريكية داخل القارة العجوز.
ولكن لا تتوقف مخاوف الصراع داخل أوروبا على مجرد المنافسة بين دول القارة على استقطاب واشنطن، وإنما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فى ظل احتمالات عودة حقبة العصور الوسطى، والتى شهدت حروبا ضروس بين الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، فى ظل صراع النفوذ، والذى تجلى فى أبهى صوره فى الصراع بين فرنسا وألمانيا على قيادة الاتحاد الأوروبى من جانب، وعودة الطموحات البريطانية لاستعادة مكانتها القارية من خارج الاتحاد الأوروبى، عبر التقارب مع إدارة ترامب من جانب أخر.
الصراعات الأوروبية المحتملة لا تتوقف على الجانب البينى (بين دول القارة)، وإنما تمتد إلى البعد الأهلى، من خلال النزعات الانفصالية التى تثور فى العديد من بلدان القارة، على رأسها إقليم كاتالونيا الساعى إلى الانفصال عن إسبانيا، بالإضافة إلى الجدل المثار حول منطقة جبل طارق، والمتنازع عليها بين لندن ومدريد، وكذلك احتمالات انفصال أسكتلندا عن التاج البريطانى، وهى القضايا التى تمثل فى مجملها بذورا ليس فقط لانفراط عقد أوروبا الموحدة، ولكن أيضا لصراعات قد تصل إلى حد الحروب بين الدول الأوروبية.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ليس أكثر من اللبنة الأولى فى طريق الانقسام، وربما التفتت، حيث أن عدوى الانفصال لن تقتصر على خروج الدول من مظلة الاتحاد الأوروبى، ولكنها قد تمتد إلى ما يمكننا تسميته بـ"تفتت" الدول وتقسيمها، فى المستقبل، وبالتالى فإن "بريكست" يمثل جرس إنذار مهم للقارة فى المرحلة المقبلة.