خلال تجول "اليوم السابع" داخل أروقة معرض القاهرة الدولى للكتاب بدورته الـ51، رصدنا كتابا يحمل عنوان "الملف الشخصى لتوفيق الحكيم"، ما دعانا إلى تصفحه لمعرفة فكرة الكتاب، وبالفعل وجدنا فى أولى الصفحات تقديم بقلم الروائى العالمى الكبير نجيب محفوظ، يتحدث فيها عن الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ليوضح جانب مهم لا نعرفه عن الكاتب الراحل.
غلاف الكتاب
فى الكتاب الذى كتبه إبراهيم عبد العزيز، والمعروض بدار المعارف، يقول الروائى العالمى نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل العالمية "عندما عرفت الأستاذ توفيق الحكيم فى قهوة "ريتز"التى كان يفضل الجلوس فيها أمام البنك الأهلى، لم يفصلنى عنه إلا الموت، وعلاقتى بتوفيق الحكيم تمثل فى كتاب العمر إلى جانب الصداقة الأدبية، الصداقة الشخصية، وهو يعترف أننى كنت دائما أنوه بأستاذيته الحقيقية، وكان يقدرنى كأديب ويشجعنى، ولن أتحدث عن توفيق الحكيم الأديب لأن الدنيا تكلمت عنه فى الشرق والغرب، ولكننى سأتكلم عنه من الناحية الإنسانية والمواقف الجديرة بالاحترام، كتشجيعه للشباب واستماعه لهم أو زيارته لمعارضهم، وتشجعيه للفنانين ، فضلا عن مواقفقه فى اللجان والجوائز، أو وقوفه مع المظلومين، وأذكر أنه كان يستقيل من المجلس الأعلى للفنون والآداب بسبب الجو العدائى لترشيح كمال الملاخ لجائزة الدولة.
الكتاب داخل معرض المعرض
وكذلك وقف إلى جانب حصول "ألفريد فرج" عليها ولم أكن عضو فى اللجنة الخاصة بذلك، فطلب منى أن أكون سنداً له للتغل على الجو السيئ لألفريد فرج، وقمنا بما يشبه مذبحة القلعة لكى ينال الجائزة التى يستحقها بكل جدارة.
تقديم نجيب محفوظ
وعندما تبنيت فكة عودة دكتور غالى شكرى غلى الاهرام، واقفنى توفيق الحكيم وكتبنا بذلك مشروع خطاب وقعناه واستجاب إبراهيم نافع استجابه جميلة، وبذلك كسب الإهرام غالى شكرى.
تقديم نجيب محفوظ
فتوفيق الحكيم شخص عامر بالعواطف الرقيقة المهذبة، روح خفيفة جداً، وصافية جداً، والجلوس معه متعة من متع الحياة الدنيا التى لا يشبع منها، فهو محدث لبق وغنى بالذكريات سواء ذكريات الصبا والطفولة مع والده او الدته، أو ذكرياته فى القاهرة مع خطوات الفن الاولى، وذكريات اوروبا عن دراسته الرسمية للقانون، والدراسة الحقيقة للفن، ويتخلل ذلك دائما النكت اللطيفة والملاحظات الجميلة.
تقديم نجيب محفوظ
والغريب الذى يدلك على شخصية توفيق الحكيم، هو الركن الخاص به فى قهوة "بترو" لأنه يجمع أناسا لا يمكن لإنسان أن يتعايش معهم دفعة واحدة، لأنهم مختلفون جداً، ما بين باشوات من أعماق العهد الماضى وشباب عهد حديث لا يزال يبزغ، وناس فى سنى وآخرين من عمره وهؤلاء على قدر ما يختلفون مع بعضهم يلتقون فى توفيق الحكيم على أحسن وئام، فهو يعامل كل واحد منهم المعاملة المناسبة كأنه طبيب بشرى.
تقديم نجيب محفوظ
ثم إن هناك أشيباء استهر بها توفيق الحكيم مثل "بخله" وعدائه للمرأة وهذه أمور نستطيع ن تسميها شعارات وجد فيها الحكيم نوعا من الفن وهو يتمسك بها على هذا الأساس، أما فى الواقع فهو لم يكن عدوًا ، للمرأة بل كان من أكبر أنصارها ومحبيها، ثم هو يظهر البخل فى أشياء صغيرة، فإنها كانت دائما تثير فكاهة عميقة،وعندما تاتى لواقع الحياة تجد أنه أبعد اما يكون عن البخل، وأنا أذكر أنه قام بتزويج ابنتي زوجته "ناجا و نورا" تماما مثل ابنته، وهذا شئ يندر أن يقوم به إنسان، ولو كان بخيلا لم يكن سيزوج ابنته، وأذكر أنه فى شارعنا كان يوجد رجل "بك" موظف كبير وكان بخيلا غلى درجة أنه لم يكن يوافق على زواج ابنته، حتى هربت وتزوجت وذلك أعفى نفسه من أى التزامات بتجهيزها، أما توفيق الحكيم فقد كان كريما وأنا اعرف ظروفا فقد قيها ما يعثر ثروة ضخمة عندما تضربها فى أرقام اليوم، ولكن توفيق الحكيم تقبل الاكر ببساطة وبفلسفة، ولذلك يندر أن أكون رأيت شخصية يكرم توفيق الحكين لأنه كرم يخفيه يعكس بعض الناس الذين يتظاهرون بالكرم، ويحبون أن يعرف الناس أنهم كرماء.
ويمكن لظروف الانتخابات والسياسة، فينفقون أموالا كثيرة، وينجحون فى إخفاء بخلهم وتقديرهم، لكن الذى طبع الكرم ويخفيه هو كريم أصيل لأنه يعمل الكرم للكرم، لا لكى تقول عليه أنه كريم، بل يتركك لتقول عليه أنه بخيل.
وهكذا كان توفيق الحكيم كريما، وكان أكرم ما يكون مع اسرته، مشغولا بأبنائه كأب، فخوراً بالمرحوم اسماعيل، ويريد أن يطمئن دائما على زينب ومستقبلها بل حتى على ابنتى زوجته، ولكنه كأن كأديب مشغولا كثيرًا بأدبه فيهيأ له أنه ظلم اسرته، وأن هذا الوقت الذى انشغل فيه بالأدب كان يجب أن يكون من حقهم، وهذا غير صحيح، لأن الحكيم رب الاسرة ق أعطاهم حقهم وأكثر، وكان عليه أن يعطى أدبه حقه ايضا، ولكنه كان يرى ان كل الوقت كان من المفترض أن يكون لأسرته، ولم يقل بهذا أحد، لأن اسرته لم تكن ستطبق تفرغه لهم.
وارى أن أبناءنا نحن الأدباء يجب أن تركهم لحريتهم إلى حد ما لكى تتكون شخصياتهم ويكبرون، لأن الحنان الزائد عن حد ينقلب إلى ضده، وشعور توفيق الحكيم بالتقصير تجاه اسرته كان شعوراً مبالغا فيه كثيرا والدليل على ذلك أن افراد اسرته نجحوا فى حياتهم وكان نجاحهم أساسه الحرية وعديم تدخله فى شئونهم بما يعقبهم عن شخصياتهم واعتمدهم على ذواتهم، لكن الظروف التى للأسف الشديد انهت حياة إسماعيل، هى ظروف خاصة يمكن أن يقع فيها أى شاب، وليس لها علاقة إطلاق بأن توفيق الحكيم لو تفرغ له وجلس معه أكثر لكان ذلك مؤجلا لنهايته المحتومة.
وذلك فأن هذا الكتاب الذى يتناول حياة توفيق الحكيم الأسرية من خلال ابنته، وابنتى زوجته، وأحفاده، زون حوله، هو تأريخ للجانب الذى يغيب عادة المؤرخين لأديب كبير أو الاعظم أديب فى حياتنا وهذا يفيد النقد، والأدب والتاريخ من خلال المعرفة وإلقاء الأضواء على الجوانب التى قد تغيب عن الإنسان، بل قد يكون فيها تفسير لكثير من مواقفة الأديبة، ولا ينبغى أن يكون السؤال ماذا يبقى من توفيق الحكيم، لأننى عندما أنظر إلى مؤلفاته العديدة يكون السؤل وما الذى لا يبقى منها، هذا هو السؤال المعقول، لأنه كلها مرشحة للبقاء، وذلك فالفراغ الذى تركه توفيق الحكيم لم يسد ، ولم يتغزى عنه. إمضاء نجيب محفوظ 12 مارس 1992م.