حالة متكررة تسيطر على عقول ملايين الشباب، فى مختلف الأعمار، أغلبها يتمثل فى نقمة واضحة على ما يعملون، سواء كانت هذه الأعمال مهمة أو غير مهمة، تحقق الرضا المادى والأدبى، أو تصل بهم إلى حد الكفاف، فالكل صار يتحدث ويسبق عباراته بـ" لو"، فلو كان مرتبى 20 ألف جنيه.. لو كنت أجلس على هذا المكتب.. لو ذهبت إلى هذا الفندق.. لو تعلمت فى تلك المدرسة.. لو اشتريت هذه البدلة.. وهكذا عشرات التمنيات المتزاحمة، التى قد يراها البعض طموحا أو تطلعا، إلا إننى بصورة شخصية أرى جوهرها "غياب الرضا"، وافتقاد الحمد.
كانت الأسر المصرية قبل 50 عاما تطلق على الأجهزة الكهربائية "الكماليات"، فلم تكن موجودة فى كل منزل، كما نحن الآن، وكانوا يعتبرونها من وسائل الرفاهية، ودليل على الترف والثراء، ومن يعيشون فى الريف على وجه التحديد لم يعرفوا هذه الكماليات، ورغم ذلك كانت حالة الرضا تملأ الأجواء، والحمد لله تسبق كلماتهم فى ظرف ومناسبة، مع العلم أن مستوى الرفاهية كان أقل، وجودة الحياة أقل، والمرتبات أقل، إلا أن النمط الاستهلاكى الذى نعيشه اليوم لم يكن قد انتشر بالصورة التى نراها، لدرجة وصلت إلى شعور أشخاص يجنون عشرات الآلاف من الجنيهات شهريا ويشعرون بالعوز ويشكون ضيق الحال.
ما أكتب ليس دعوة إلى التقشف أو الزهد، أو التخلى عن رفاهية الحياة، بل دعوة للفهم والإدراك بأن المادة وحدها لا تقدم حياة جيدة، وعلينا أن نبحث عن الرضا فى أنفسنا قبل أى شىء، فلو لم يكن الرضا من الداخل وعن قناعة لن يكون، وهنا المعنى ليس خمولا أو كسلا، بل سعيا بنفس هادئة وطمأنينة.
"نحن من نصنع الرضا لأنفسنا".. أظن أن هذه العبارة على قدر كبير من الدقة، فلا يمكن أن تصنع الرضا بوظيفة أو نفوذ أو أموال أو مسكن فاخر، بل باقتناعنا بما نملك، فقد تفقد شغفك لتلك الوظيفة، وقد تخسر أموالك بين عشية وضحاها، أو يذهب عنك كل ما عهدت من نفوذ وسلطة فى غمضة عين ودون خطأ أو سبب.
إننى أرى الرضا واحدة من النعم التى جعلها الله للناس، كما المأكل والمشرب والملبس، والصحة، وأتصور أنه جزء مهم من الصحة، فمن يرضون بالطبع صحتهم أفضل، ونفسيتهم ومزاجهم أفضل، وحياتهم أقل ضجيجا وتوترا، بل إن هناك ما هو أبعد من ذلك بأن الرضا بالمرض ما هو إلا دعوة للشفاء.
نخطئ كثيرا عندما نقيس رحلتنا فى الحياة على معيار المكسب والخسارة، فبين كل مكسب وخسارة عشرات بل مئات المحاولات من النجاح والفشل، لذلك علينا أن نغرس الرضا فى نفوسنا، فالقوة التى سيمنحنا إياها ستكون قادرة على مواجهة أى محنة، ويكفيك فقط أن تعمل لتنجح دون أن تنافق أحد أو تتربص للإيقاع بأحد.