نشر "المرصد المصرى"، دراسة للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية أعدها شادى محسن، حول طموح تركيا للعب دور بارز دفعها لمزيد من العزلة، وتطرقت الدراسة إلى أن أنقرة راهنت فى سياساتها الخارجية على عدد من المحددات، كان أهمها تبنى سياسات هجومية لتعزيز مصالحها بطرق مختلفة، أغلبها كان بالطرق العسكرية الصلبة، ظهر فى نهجها تجاه سوريا وقبرص واليونان وليبيا، وكذلك مع الولايات المتحدة وربما حتى مع روسيا. وثانيا عقد تحالفات مرنة تعتمد على تحقيق مصالح تركيا فى المقام الأول، وهو ما يفسر القفز التركى فى علاقاتها بين روسيا تارة والولايات المتحدة تارة أخرى.
وتطرقت الدراسة إلى أن الرئيس التركى يخاطر بأن تصبح تركيا -الدولة غير القانعة بحدود دورها التقليدي- نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها، تتحقق من خلال ردود فعل هجومية وعدوانية، وخلق مصالح تركية تقابل بخلق تهديدات على الدول الجارة وتحويلها إلى أمر واقع.
ولفتت الدراسة إلى أن هذه الاستراتيجية حققت بعض النتائج المهمة على المدى القصير، تمثلت على سبيل المثال فى الضغط على العواصم الأوروبية بورقة اللاجئين، لكنها انطوت على مخاطر حادة طويلة الأجل، ربما بدأت تركيا فى مواجهة أولى ملامحها فى الوقت الحالى ويتمثل التحدى الذى يواجه واشنطن فى تجنب الاستسلام للضغط التركى مع البقاء فى حالة تأهب لفرص طرد تركيا من هذا المسار.
وتطرق شادى محسن فى دراسته إلى الرواية التركية، وانه منذ عام 2016 تحاول أنقرة صياغة رواية رسمية تخبر برغبة تركيا فى لعب دور أكبر فى النظام الدولى، ورغبة فى تحقيق أكبر قدر من الاستقلال فى العالم وتقليل الاعتماد على الحلفاء سواء روسيا فى مجال الطاقة، أو الغرب فى مجالات أخرى مثل التسليح وأوضحت هذه الرواية أيضًا أن تركيا ستصبح أكثر حزمًا من أجل تأمين مصالحها، بالاعتماد على القوة الصارمة والتدخلات العسكرية الخارجية للقيام بذلك.
ويستكمل خلال الدراسة، فمن خلال شرح الأساس المنطقى وراء هذا النهج، يجادلون بأن تركيا تواجه الآن تهديدًا وجوديًا من مجموعة من الأعداء، بما فى ذلك الولايات المتحدة وشركائها الأكراد السوريين ومحور إقليمى يتكون من مصر والامارات والسعودية، وإسرائيل، وفرنسا.
واقتناعًا منهم بأن محاولة الانقلاب التركية فى 15 يوليو 2016 كانت هجوما نظمته قوى أجنبية، فإنهم يعتقدون الآن أن أفضل دفاع لتركيا هو الهجوم الجيد، ويجب أن تبدأ بخلق جبهات حرب ضد أعدائها. أن أخذ هذه الرواية التى تحولت إلى عقيدة تسيطر على صناعة القرار فى تركيا فى ظاهرها يقدم دليلًا جيدًا للسياسة الخارجية التركية الحالية، ربما يمتد الأمر ليقدم دليلا لعقيدة تركيا كلها وليس الرئيس التركى الحالى فقط.
وفيما يخص النهج التصعيدى لتركيا، يمكن تلمس نهج السياسة الخارجية الجديدة لأنقرة بوضوح فى علاقات تركيا مع الولايات المتحدة، لعقود من الزمان، غضبت أنقرة من الشروط غير المتكافئة للعلاقات الأمريكية التركية، مستشهدة -من بين أمثلة أخرى وليس الحصر- بمعارضة واشنطن المستمرة للتدخل التركى فى قبرص.
ومع ذلك، فى أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016 التى يعتقد الكثيرون فى أنقرة حقًا أنها من تدبير الولايات المتحدة -التى تأوى العدو الأيديولوجى لأردوغان “فتح الله جولن”-، أظهر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان التزامًا جديدًا بإعادة ضبط شروط العلاقة.
وتشير الدراسة إلى أنه عند شراء صواريخ الدفاع الجوى الروسية S-400، على سبيل المثال، أعلن أردوغان استقلال تركيا عن واشنطن حيث توقع العديد من المحللين الأمريكيين أن تتراجع أنقرة فى نهاية المطاف تحت الضغط الأمريكى، كما فعلت فى الماضى، ولكن لم يفعل أردوغان، مخاطرًا بفرض عقوبات حتى مع تعثر الاقتصاد التركي. لقد حسب حتى الآن أن تركيا كانت (وستظل) مهمة للغاية بالنسبة لواشنطن، وهو ما يمنع الأخيرة للمجازفة بإجراءات عقابية قاسية بشكل غير ملائم.
وجاء فى الدراسة، أن أنقرة اتخذت نهجًا هجوميًا تصعيديًا بالمثل فى شمال شرق سوريا، من خلال التهديد المتكرر بالعمل العسكرى وصلت لحد المخاطرة بمواجهة القوات الأمريكية، أقنعت أنقرة فى نهاية المطاف الرئيس دونالد ترامب بالسماح بتوغل تركى ضد وحدات قسد السورية؛ ولتحييد مطالب الأكراد الانفصالية فى الشمال وسط كل هذا، تحدت الحكومة التركية أيضًا واشنطن باعتقالها عددًا من الموظفين المحليين فى وزارة الخارجية الأمريكية واحتجاز القس الأمريكى أندرو برونسون فى السجن لأكثر من عامين على الرغم من الدعوات البارزة المتكررة للإفراج عنه.
ونتيجة لهذه السياسات، واجهت تركيا عواقب حقيقية، أدى شراء تركيا لمنظومة إس-400 إلى استبعادها من دورها كمنتج مشارك للطائرة المقاتلة إف-35، مما قد يكلف أنقرة أكثر من 10 مليارات دولار فى المبيعات النهائية بعد أن هاجمت تركيا وحدات قسد فى أكتوبر 2019، علق البنتاغون عملية تبادل معلومات استخباراتية سرية مع أنقرة، بينما نظر الكونجرس فى مجموعة من العقوبات التى لا يزال بإمكانه تنفيذها.
ويشير شادى محسن إلى أنه علاوة على ذلك، لم تتعاف العملة التركية بالكامل بعد من الخسارة الهائلة التى تكبدتها عندما هدد ترامب بـ “تدمير” الاقتصاد التركى فى صيف عام 2018 لتأمين إطلاق سراح القس برونسون، وهو المشهد الذى يتكرر تقريبا فى الوقت الحالى يزيد عليه تبعات أزمة كورونا المدوية على الاقتصاد التركي. ومع ذلك، من وجهة نظر أنقرة قد تبدو هذه انتكاسات مؤقتة، يمكن تحملها والصمود أمامها. ويرمى الإدراك التركى أن أنقرة ستثبت فى النهاية لواشنطن أنها ليست عرضة للضغط الأمريكى، وبالتالى ستؤمن منافع طويلة الأجل فى شكل علاقة أكثر مساواة.
كما اتخذت أنقرة نهجًا هجوميا بالمثل فى مجموعة من القضايا الإقليمية، عندما تحركت قبرص الرومية بالتنسيق مع إسرائيل واليونان، لاستغلال الموارد النفطية المكتشفة حديثًا قبالة ساحلها الجنوبى الشرقى، أعلنت أنقرة أنها ستحبط هذه الجهود حتى يتم الاعتراف بمصالحها البحرية فى المنطقة، وأرسلت تركيا سفنًا حربية لتهديد الشركات الأجنبية التى تجرى عمليات حفر استكشافية فى المياه القبرصية، ثم أرسلت سفن حفر لتأكيد مطالبها. وهو ما دفع بروكسل (الاتحاد الأوروبي) للبحث فى فرض عقوبات على تركيا بدأت على مستوى الشركات فى تركيا بعد أن فشلت كل المحاولات الدبلوماسية الصادرة من برلين لتوفيق وجهات النظر بين اليونان وتركيا والحؤول دون مواجهة عسكرية فى بحر إيجة.
وتطرقت الدراسة إلى نقطة هامة تتمثل فى هل تخسر أنقرة مسارحها؟، وكانت الإجابة أنه استكملت أنقرة هذه الجهود التصعيدية الحادة فى شرق البحر الأبيض المتوسط بسياستها فى ليبيا. فى 2019 زادت تركيا دعمها لحكومة الوفاق الوطنى التى تتخذ من طرابلس مقرًا لها فى صراعها ضد الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر. بالإضافة إلى إرسال طائرات بدون طيار ومستشارين عسكريين وآلاف من المقاتلين السوريين حسب تقارير البنتاجون.
وأعلن أردوغان عن استعداده لنشر قوات تركية للدفاع عن حكومة الوفاق، فى الوقت نفسه، وقعت تركيا اتفاقية مع حكومة طرابلس تحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين فى البحر المتوسط. من خلال قطع المنطقة الاقتصادية التى تحق لليونان، على الأقل وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
الآن، بعد الترتيبات الجيوسياسية الأخيرة فى شرق المتوسط، نجح أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط فى القاهرة من ترفيع المنتدى إلى منظمة إقليمية تتبنى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وهو ما دفع أنقرة لاستدراك مواقفها وإرسال رسائل توافقية إلى القاهرة من أجل عقد حوار بين دول الإقليم.
ومؤخرًا، سيواجه نهج القوة الصارمة لتركيا اختبارًا أكثر جدية فى شمال غرب سوريا (إدلب). بعد دعم التنظيمات الإرهابية السورية فى قتالهم ضد النظام السورى واستقبال ملايين اللاجئين السوريين، تواجه تركيا انهيار سياستها تجاه سوريا مع تقدم قوات الأسد إلى إدلب التى تسيطر عليها المعارضة، لا سيما بعد فشل المباحثات الأخيرة بين روسيا وتركيا.
فى الأشهر المقبلة، قد تواجه تركيا صعوبة اقتصادية نوعًا ما بسبب إمكانية فرض عقوبات اقتصادية أوروبية عليها. كما أن أنقرة على وشك المواجهة مع القوات السورية المدعومة من روسيا فى إدلب. فى الوقت نفسه، تواجه تركيا تطويقا إقليميا من مصر، وقبرص، واليونان (التى تواجه مؤخرا تعثرا فى المباحثات مع تركيا)، وفرنسا التى تجمع عواصم أوروبا لمواجهة أنقرة.
فى محاولة لإدارة هذا الوضع، من غير المرجح أن تعيد أنقرة ضبط علاقاتها مع الغرب بشكل دراماتيكى كما يأمل البعض، طالما تحتفظ روسيا بالقدرة على التصعيد ضد تركيا فى إدلب (ولا تزال واشنطن غير مستعدة لاستثمار هذا النوع من التدخل فى الوضع فى سوريا)، لذا من المتوقع رغم فشل المباحثات فى إدلب أن توافق أنقرة على دور محدود لها فى سوريا، سيحافظ هذا على بعض مكاسب أردوغان. بعبارة أخرى، من غير المرجح أن تنفصل أنقرة بشكل دائم عن موسكو، وهو ما قد يزيد من استياء أمريكى تترافق معه أصوات أمريكية داعية للخروج العسكرى من تركيا، وهو ما تبين فى تصريح وزير الخارجية الأمريكى مؤخرا (بومبيو يحذر: “هواوي” تهدد وجودنا العسكرى فى تركيا: 25 سبتمبر 2020).
واختتمت الدراسة أنه يمكن القول أن الاستراتيجية الهجومية لتركيا فى المنطقة وقفزها المستمر على الحبال الأمريكية والروسية دفعها للمحاصرة من قبل الجميع حيث دول الشرق الأوسط، والدول الأوروبية، وإلى مزيد من العزلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة