"لقد شهدت مائة زحف أو زهائها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء.. فلا نامت أعين الجبناء"
مقولة شديدة الدلالة لأهمية اللحظة الأخيرة في حياة البشر، جاءت على لسان سيف الله المسلول، خالد بن الوليد، والذي حزِن عند الوفاة أنه لم يستشهد، رغم بطولاته المتعددة، وجاءت ميتته هادئة على الفراش.
بدلة شرطية، يرتديها ضابط برتبة عقيد، تحمل من الأتربة، وبودرة إطفاء الحريق، ما حوُل لونها للأبيض، وهي البدلة الشرطية الشتوية السوداء.. هذه كانت لحظة تعارفي بالشهيد البطل اللواء ياسر عصر، بينما كنت أبحث عن صورة أضعها على خبر وفاة لواء بوزارة الداخلية، عندما وردت إلينا المعلومة في اليوم السابع، مساء أمس الإثنين.
قليلون من تكون اللقطة الأخيرة في حياتهم انعكاساً لحياتهم ومجمل أعمالهم، ذلك أن من يرزقون حسن الخاتمة هم الأجدر بتخليد ذكراهم، وهم من يعيشون عمراً فوق عمرهم، يسمى "عمر الأعمال".
كنت أظن أنني سأجد على موقع البحث جوجل صورة مهندمة، لضابط شرطة، غير أن أول ما قابلني كانت هذه الصورة التي تعود أقدميتها إلى رتبة العقيد للبطل الشهيد.. وهنا توقفت للتأمل، وقررت البحث أكثر عن حياة الفقيد.
بمحاولة الربط بين تفاصيل استشهاد اللواء البطل، والصورة القديمة التي تعود له عندما كان برتبة العقيد، أيقنت أنني أمام قصة بطولية حقيقية، فهذا الضابط الذي استشهد خلال تأدية عمل إنساني، يتمثل في إنقاذ البشر من حريق بمحطة مترو، له تاريخ طويل في العمل والجهد والتعب والتفاني والإخلاص، والشقاء، وتعريض الحياة للخطر يوميًا في سبيل إنقاذ البشر.
الحقيقة أنه لا صورة تمثل تجسيداً حقيقياً، وانعكاسًا للواقع، وعظمة ما تقدم في سنوات العمل، أكثر من صورة البطل في إحدى مهامه الإنسانية، وهو لا يكاد يرى منه سوى بودرة إطفاء الحريق، التي ملأت بذلته وما ظهر من جسده، غير أن الله أراد له أن تكون الصورة الأخيرة على نفس الدرجة من البطولة والتضحية، فقط لقى الشهيد البطل ربه وهو في محل عمله، يشرف بنفسه على مهمة إنسانية ولا أروع، ولم تكن اللحظة الأخيرة داخل مكتب أو منزل، وهو القادر وفقًا لرتبته الكبيرة أن يتابع الحادث من بعيد، من خلال توجيه ومتابعة مرؤوسيه.. غير أن ما قدمه في حياته يستحق نهاية بطولية أكثر.
صورة الشهيد البطل، على كل ما بها من معانِ سامية، ودلائل على بطولة إنسان عاش حياته لينقذ الإنسان، ومات على ما عاش، غير أنها تستحق أن تكون تمثالًا خالدًا، لها منافس قوي، وهي لحظة النهاية، ليتلاحما، ويشكلان قصة رجل من أولئك العظماء، الذين تجسد لحظة موتهم تاريخ نضالهم، فها هو اللواء البطل ياسر عصر يلقى ربه على ما عاهده عليه، ويموت ميتة تمناها كل الرجال العظام عبر التاريخ.. فهنيئًا لك سيدي البطل لقاء ربك وأنت تحاول إنقاذ خلقه، وبنيانه.. وهنيئًا لك نهاية البطل.. وهنيئاً لك تجسيد تاريخك بهذه النهاية العظيمة.. وهنيئًا لك الجنة ونعيمها.. أحسبك الآن أسعد خلقه، يا من عشت تنقذ خلقه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة