حالة من الدهشة تصل حد الاستفزاز تنتابني وأنا أطالع على مدار أيام، صوراً متناقضة في بلادي، ونوعين من البشر، حيث جنود مصر على كل الخطوط، بداية من بواسل حفظ الأرض والعرض، لرجال حفظ الأمن، مروراً بأطباء معارك الحفاظ على الحياة، انتهاءً بكل جنود مصر في كل مجال، ممن يعملون ويتعبون ويسهرون على رفعة هذا البلد والحفاظ عليه، لا يطلبون المزيد من الأموال، ولا يتذمرون، ولا يدخرون جهداً، ولا يتآمرون، ولا يمنون على أحد، ووسط كل هذا الجهد والعرق، لا يتكلمون، ويترجمون شعار العمل في صمت على الأرض حرفياً.
على النقيض، حيث النوع الثاني من البشر في بلادي، حيث الضجيج بلا طحين، والشعارات الفارغة من أي مضمون، والأقوال لا الأفعال، حيث لا إنجاز على مستوى العمل، ولا تلاحم مع الشعب وهمومه، حيث خيبة الأمل عند كل حدث ننتظر منه فرحاً، وعدم الوصول عند الانتظار.. حيث النوع الأناني من البشر، هؤلاء الذين يحصلون ويحصدون دون زرع ولا جهد ولا عرق.
في البر الثاني والجهة المقابلة للبواسل في كل مجال تجد لاعبي الكرة في مصر، مجموعة من البشر لم ترزق موهبة في شيء يذكر، اللهم إلا موهبة محدودة في الأقدام، تختفي تماماً وتظهر عاجزة، عندما نحتاجها في أي حدث دولي، وليست هذه فقط هي المأساة.
تزدوج المأساة، عندما تعلم أن هذه الفئة تعيش في جزر منعزلة عن المجتمع والشعب والناس، وتقتصر علاقتها بأهل مصر على الحصول على تأييدهم وتشجيعهم وحبهم مجاناً، ثم يبيعون لهم الأوهام، ويختفون عند كل حاجة إليهم، ولا أدل على ذلك من أزمة فيروس كورونا الأخيرة، التي صمدت فيها مصر اقتصادياً، بفضل إجراءات رسمية، وتكاتف شعبي من شتى فئات المجتمع، بينهم رجال الأعمال، عدا الفئة الأنانية التي تعودت على الأخذ فقط، هؤلاء الذين لم يتعلموا شيئاً أعلى منطقة القدم، وباتت الرأس فارغة من أي مضمون، والقلب فارغ من كل شعور وإحساس... أغنياء المال، فقراء العقل والقلب والإحساس.
صراع جنوني، يسير عكس العقل والمنطق، بل حتى عكس الصراع المثيل له في كل دول العالم، فبينما انخفضت أسعار لاعبي العالم في بورصة الانتقالات، بسبب فيروس كورونا، وخُفضت الرواتب، وتكاتفت المنظومة دولياً مع العالم، تفاجأنا بالسوق المصري الكروي يسير بعشوائية، وترتفع فيه بورصة اللاعبين بلا سبب ولا مبرر، فمتى ارتفع سعر لاعب كرة يلزم بيته منذ 6 أشهر؟.. وعلى أي أساس حدث الارتفاع، ولأي إنجاز، ووفقاً لأي معيار كروي أو اقتصادي؟
الحقيقة أن المجتمع المصري لن يطالب لاعبي الكرة بالتكاتف مع بلادهم وأهلهم، غير أن الدولة أصبح لزاماً عليها وقف هذا الجنون، وألا يشغلها الصراع الدائر والتحديات الكبرى عن النظر في ملف كرة القدم، ووضع حد لجنون سوق الكرة، ومراقبة أوجه الإنفاق في الأندية، وإلزامها بتحديد سقف للأسعار وحتى الرواتب، ووضع هذه الإدارات في الصورة فيما يتعلق بالتحديات التي تواجهها مصر حكومة وشعباً، وعدم السماح لهذه المنظومة بالعمل في جزر منعزلة عن واقع البلد.
الدولة المصرية مطالبة أيضاً بتحصيل ضريبة مناسبة من دخول لاعبي كرة القدم، ذلك أننا بٌلينا بنوع من البشر في هذا المجال، لن يحركهم أي وازع اجتماعي، أو إنساني، للتكاتف مع بلادهم وشعبها، ولا يتمتعون بأدنى درجة من المسؤولية، تدفعهم للوقوف خلف بلادهم، ولا أي درجة من الإحساس، تدفعهم لمساندة شعبهم، فهؤلاء ولدوا كي يعيشوا لأنفسهم فقط، ورزقوا بكميات من الأنانية والجشع، جعلتهم يطلبون فوق الملايين ملاييناً أكثر، وبعضهم بات يتسول الأموال من كل جهة، بشكل مخزٍ وفاضح ومعيب، كما لو أنه قضى حياته يعمل متطوعاً.. فهل ينتظر من شخصيات بهذا الحجم تحمل أي مسؤولية مجتمعية ما؟!
ضبط سوق الانتقالات، ووضع سقف لأسعار ورواتب اللاعبين، وتشديد المراقبة على الأندية، وحصار إعلانات اللاعبين الذين يتقاضون من خلالها الملايين، والشركات التي تستعين بهم، وتدفع لهم، ليس تدخلاً حكومياً في منظومة كرة القدم، بل هو من صميم عمل الدولة، ولا تستطيع أي جهة دولية مسؤولة عن كرة القدم في العالم أن تمنع دولة من التحكم في أموالها ومقدرات شعبها، ومن ثم فالأمر لا يتطلب سوى الإرادة الحكومية، وبدء تفعيل قرارات، شبيهة لكثير من القرارات الجريئة التي اتخذتها الدولة على كل المستويات، وحققت بها انضباطاً كبيراً، ننتظر مثله في منظومة الكرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة