واحدة من أبرز الأعمال الإبداعية للأديب الكبير الراحل إبراهيم أصلان، كانت رائعته «حجرتان وصالة» الصادرة عن دار الشروق للنشر عام 2010، وهى متتالية تضم ثماني وعشرين حكاية منزلية عن زوجين، أودع فيها أصلان خبرة نادرة في تخليق نوع من القصص لا تكاد تبدأ قراءته حتى تكتشف في الكاتب والكتابة والحياة اليومية درجات من الدهشة ربما لم تلتفت إليها أبدًا.
في «حجرتان وصالة» يأخذنا إبراهيم أصلان بأسلوبه الفريد إلى عالم من المواقف اليومية التي تبدو شديدة العادية وقابلة للحدوث في أي بيت ولأية أسرة، لكن أصلان بلغته الدفّاقة وسخريته يضفي عليها نوعًا من السحر، ويفجر من المعاني والدلالات ما يجعل هذه الحكايات تعيش في ذاكرة القارئ طويلًا.
الكاتب الراحل لم يوصف رائعته بمصطلح ينتمي للقص أو السرد من قبيل "رواية، مجموعة قصصية، متتالية قصصية"، كأنه غير مشغول بالإعلان عن النوع قدر انشغاله بالتوصيف "الموضوعي" للعالم الذي يشير له العنوان. بل إن عبارة "متتالية منزلية" كانت تصلح في حد ذاتها عنوانا فنيا أكثر منها 'توصيفا نوعيا' يدل القارىء على طبيعة العمل.
حجرتان وصالة
وبحسب النقاد، ثمة مفارقة أولى، فالمكان يحضر في هيمنته، في شبابه، بالتوازي مع شيخوخة ساكنيه وعجزهم. حضور المكان هنا يقابل بالضبط غياب أصحابه وقرب رحيلهم. العجائز فقط يلوذون بالبيوت. ربما كانت تلك حقيقة ما، إما بسبب التقاعد ـ مثل خليل، الشخصية المركزية الأولى ـ أو انتفاء شرط الخروج ـ مثل زوجته إحسان. النصوص، في مفارقة متصلة بسابقتها، تكاد لا ترسم الشخوص إلا من الخارج، في رصد سلوكي مهيمن، بينما ترصد المكان من داخله، تحلله وتتأمل معانيه الكامنة. ثمة تبادل للأدوار هنا.. يتشيأ الوجود الإنساني حتى يصير ما نراه منه هو خارجه.. ويتأنسن المكان حتى اننا نبذل الجهد الأضخم لقراءة أعماقه. هذه لعبة أولى تمتد في المتتالية وتتجلى عبر حلقاتها الثماني والعشرين.
المفارقة الثانية، والمهمة في ظني، هي شكل العلاقة بين الرجل المتقاعد ـ الأستاذ خليل ـ والزوجة إحسان. انها هنا علاقة الرجل بالمرأة، وليست علاقة الأب بالأم مثلما يقتضي الحال في شخصيتين تنتميان عمريا لهذه السن. خليل مثلا لا ينادي زوجته أبدا بـ'أم سليمان'، ابنهما الأكبر، كما هي الحال في بيوت هذه الطبقة، يناديها على الدوام باسمها، وهي أيضا تفعل ذلك. العلاقة يتخللها على الدوام 'سوء تفاهم' بالمعنى الوجودي الذي يتجاوز البعد الاجتماعي المباشر والسطحي. تعيدك لأول الزواج وليس آخره، ولجوهر كل علاقة إنسانية تمور بالتناقضات في حقيقتها رغم تماسكها السطحي الهش، حيث سوء التفاهم، والعادات المختلفة، والشجار على تفاصيل تافهة، حتى أنني تمنيت، بشكل شخصي، أن تقترب المتتالية من لحظة جنسية تجمعهما، لا لكشف العجز الذي نتوقعه جميعا، لكن للوقوف على المفارقة التي اتكأت عليها النصوص كثيرا في خلق حالة الطرافة السوداء التي تتخللها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة