مرة أخرى يخطفني البر الغربي إلى دروب تضيق وتتسع بالكثير من الأسئلة، لم أعرف صخباً كهذا الذي لازمني وأنا في طريقي إلى قرية حسن فتحي، على طريقة ليلى مراد ونجيب الريحاني:"عيني بترف وراسي بتلف، وعقلي فاضل له دقيقة ويخف"، تذكرت عندما سافرت منذ سنوات إلى قراقوص في قنا، وزرت مصنع الخزف الذي صممه حسن فتحي داخل الدير الكبير، أول ما دخلت الدير أصيبت بحالة إغماء من إرهاق العمل المتواصل بين الأقصر وقنا، وبعد أن أسعفوني في الدير وفحصوا الضغط ثم شربت القهوة المرة، بدأت أستعيد توازني وحين نهضت وقعت عيناي على صورة المعماري الكبير حسن فتحي معلقة على جدار داخل الدير ومُذيلة بتعريف مبهر "القديس حسن فتحي"، ضحكت متسائلة: قديس؟! فاستنكر حارس الدير ضحكتي وسؤالي، مجيباً بحسم: "نعم. إنه قديس، نقي، لم يعرف في حياته غير الحب الذي وزعه على الجميع".
قطعت الشارع الرئيسي في "الجرية"، كما ينطقها أهل البر الغربي باللهجة الصعيدية، يقصدون القرية، وددت لو سألتهم فرداً فرداً عن مشاعرهم الحقيقية خلف ابتساماتهم وحماستهم، على الرغم من الركود ونفاد العمل وقلة الحيلة والتوجس من فيروس "كورونا" وتوابعه، قال لي أحدهم برقة عابسة: الحياة سوف تسير سواء بنا وبخوفنا وفزعنا، أو من غيرنا ومن غير خوفنا وفزعنا، فلماذا نحزن كثيراً، خليها على الله".
خليتها على الله وأغمضت عيني ربما أرى بشكل أفضل هذا الاستطراد العجائبي بين الحياة والموت في هذا المكان الاستثنائي، البيوت في مقابل المقابر، المعابد توازي الفضاء الفسيح، والقرية القديمة تتوارى خلف عمار جديد يتسق مع التحولات والتغيرات، المشهد سخي بتناقضات لا يمكن أن تخطئها العين عموماً في البر كله، وخصوصاً في قرية حسن فتحي كمثال على ثنائية البشر والحجر، ناس وأرض وجدران ثم غياب للحلم يطفو على السطح، أقبية حسن فتحي هي أقبية النور التي أضاءت حياة الكثيرين وأنا منهم، حين زرت القرنة لأول مرة في العام 2005، أثناء مشاركتي في العمل مع فريق الفيلم التسجيلي "حسن فتحي.. آن للبناء أن يكتمل" إخراج أحمد رشوان، ففاجئني أفق القرنة الذي اتخذ شكل سؤال يحاصر هذه القرية المهملة: هل كان الزمان يخبيء كل هذا الخراب والتشوه الذي أصاب حلم"حسن فتحي"؟ مسرحها المهجور، الخان، المدرسة، السوق، بيت حسن فتحي لا يسكنهم سوى الخواء، أما البيوت التي أرادها كي تحترم الأدمية، فقد تم هدم أغلبها ليحل محلها بيوتا أسمنتية بغيضة، لم يستثن من ذلك غير مسجد القرية الذي افتقد العناية ومنزل بناه حسن فتحي لضيوفه يقطن فيه حارسه أحمد عبدالراضي، كل شيء هناك أصبح أشبه بالنصب التذكاري اليائس.
في زيارتي المجددة لها خلال الأيام الماضية، وجدتني أقف في مدخل القرية، في مواجهتي شاب صغير يتابع خطواتي من مكانه، كما بطل فيلم "المومياء" للمخرج شادي عبد السلام، حين ظهر البطل خلف تل من الرمل ناظرًا نحو رجال القاهرة، اللقطة في الفيلم تعكس ضياع البطل وتظهره كأنه غارقًا في بحر من الرمال، ثم تتحول إلى لحظة تحدي حين تقترب الكاميرا منه، أما في الواقع فيترقب هذا الشاب حضوري بحذر الراغب في التعرف على خطواتي المتطفلة داخل عالمه الخاص، ربما دون أن أنتبه كنت مثل شادي عبد السلام مفتونة بالتاريخ القديم، من ناحيتي أحاول تتبع ضوء الشمس؛ متجاوزة سحب وظلال الشتاء، كأنني ألاحق ما فعله شادي في فيلمه لما جعل الكاميرا هي الراوي للحكاية، وصنع تكوينات متباينة للضوء كي يعبر عن حساسية موضوعه المستوحى من أحداث حقيقية وقعت في أواخر القرن التاسع عشر، زمن الاكتشافات الكبرى لمومياوات الدير البحري، الخبيئة التي طويت سنوات طويلاً بعيداً عن اللصوص، حتى عثرت عليها إحدى القبائل؛ ليدور الصراع المرتبك بين الهوية والحق في إرث الأجداد وبين الحاجة إلى المال، شادي أراد التوغل في التاريخ ليتبين أثره في الحاضر، وهو ما عبر عنه قائلاً " أتصور أن الأفلام التاريخية التي أقدمها ومُصر عليها هى نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر، أنا أرى الحياة في استمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري، ولا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس، إذا أردت أن أرى جيدًا ما يحدث اليوم فما نحن فيه اليوم هو نتاج تاريخنا".
ربما كان لدي هذا الهاجس في تعقبي العفوي للمعماري حسن فتحي وقريته المنسية، فالجمالية لا تخدعني؛ لابد أن يضاهيها الجوهر الإنساني، ولعلني حسب هذا الخاطر لم أنخطف ببهاء معبد حتشبسوت بقدر ما اكترثت بالكلام عن قصة الحب المبهمة، غير المؤكدة بين حتشبسوت وسننموت المهندس الذي بنى لها المعبد، لا تعنيني فخامة المعبد بقدر ارتمائه في حضن الجبل الشامخ، وعلى رأسه يمكن أن تتخيل الأعين بشراً منحوتين على الصخور، ترمي الشمس بوشاحها عليهم؛ كأنهم ثُبتوا في أماكنهم بعصا سحرية في انتظار إشارة الحياة، النحت المتخيل يحمل جمالاً بلا حدود، كما أنه يشهد على التشبث بالحياة في مفاصل الصخور القاسية، تقاوم صلابة الصخر، وتجري حواراً هامساً مع من يحملون قلوباً مشدودة بأوتار الحب والاحتجاج في ذات الوقت، كذلك لا تجذبني المبان والعمارة إذا لم تحمل مجديْ: الجمال والمنفعة، وهذا ما فعله حسن فتحي بعد سنوات ودراسات حول العمارة الطينية، اكتسب فيها ثقة واعتراف مصلحة الآثار بجهوده، فاسندت له إنشاء قرية القرنة الجديدة سنة 1948 ، من أجل نقل 7000 من مواطني القرنة القديمة وإخلاء المواقع الأثرية، المشهد الآن تغير جذرياً، عمارات خرسانية استبدلت بها البيوت القديمة أو بُنيت عشوائياً فوق مساحات الفراغ التي كانت تمثل جزءاً من الشكل العام للقرية، توارت البيوت الطينية المتبقية في أحضان الخراسانة، دون مراعاة لجماليات أو نسق عام حدده حسن فتحي كمفهوم جديد للإسكان الريفي، وكانت القرنة خطوة تجريبية في مشروعه، تجربة لم تكتف بالجمال فقط وإنما اصطبغت برؤية اجتماعية وفلسفية، حسبما وصفها جمال الغيطاني واعتبرها بحثا أصيلا ودؤوبا في الشخصية والهوية ، يتجاوز أي تشوه شكلي حدث في مجتمعنا، لأنها ارتكزت علي التراث وقدمت أسسا للتواصل مع الحضارة السابقة ومع المستقبل.
لم يحمل المستقبل، مع الأسف، سوى الإهمال للفكرة، للمشروع، للقرية التي أصبحت أطلالاً محنطة ونفياً لمنطق حسن فتحي في الحياة الكريمة التي يستحقها البشر، أخبرني أحد الأصدقاء من أبناء البر الغربي أن أخر لجنة جاءت القرنة منذ سنوات، كانت مكونة من أساتذة الفنون الجميلة الذين وعدوا بالصيانة والترميم، ثم اختفى الجميع تماماً، كما لو أن الجميع غسلوا أياديهم من القرنة، حتى الأصوات التي نادت بضرورة استغلالها كملتقى ثقافي وسياحي، من خلال إقامة بعض المهرجانات الفنية والثقافية فيها لإضفاء صبغة ثقافية تجذب إليها العالم الخارجي، أصبحت نداءت بلا صدى، أشبه بضربة في الرمل طائشة، كأنه حتى لا توجد فرصة لتحقيق ما قاله حسن فتحي نفسه عن تجربته:" سأكون أكثر إقتناعا لو تركت لتاريخ المشروع أن يتحدث عن نفسه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة