صار مقدرا على منطقة الشرق الأوسط أن تناقش مجموعة من الأفكار منها ما يتعلق بالكتب المقدسة ومكان نزولها وبنو إسرائيل ووجودهم وما تعرضوا له تاريخيا، ولأن هذه الأفكار بها اختلافات وثغرات كثيرة، لذا فإن النتائج لا تكون دائما متشابهة، ومن ذلك ما يتعلق بنزول التوراة، وهو ما سنعرضه من خلال أفكار اثنين من المفكرين العرب هما اللبناني كمال الصليبى والسورى فراس السواح.
كمال الصليبى.. التوراة جاءت من جزيرة العرب
صدرت الطبعة الأولى لكتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" للدكتور كمال الصليبى سنة 1985، لكن مع كل هذه السنوات لا يزال يثير الكثير من الجدل والكثير من الأسئلة، وفيه يسعى الصليبى إلى إثبات أن أحداث "العهد القديم" لم تكن ساحتها فلسطين، بل إنها وقعت فى جنوب غربى الجزيرة العربية، ويستند فى ذلك إلى أدلة اكتشفها فى مجالى اللغة والآثار، ويقارنها بالمألوف والسائد من "الجغرافيا التاريخية للتوراة".
ويشرح الصليبى نظريته فى تحديد أسماء الأمكنة والمواقع المذكورة معتمدا على زياراته الشخصية، كما يثبت فى مقدمة الكتاب، لتلك المناطق فى عسير وجنوب الحجاز، وعلى معجم لأسماء الأماكن فى المملكة العربية السعودية وضعه مجموعة من العلماء السعوديين، واعتمد من ناحية ثانية على قراءةته المتأنية للتوراة وشروحاتها وما كتب عنها وما ورد فيها من وقائع وأحداث وأسماء وأمكنة كثيرة.
ويرى الكتاب أن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن فى فلسطين بل فى غرب شبه الجزيرة العربية بمحاذاة البحر الأحمر، وتحديدا فى بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن. وبالتالي، فإن بنى إسرائيل من شعوب العرب البائدة، أى من شعوب الجاهلية الأولى، وقد نشأت الديانة اليهودية بين ظهرانيهم ثم انتشرت من موطنها الأصلى، ومنذ وقت مبكر، إلى العراق والشام ومصر وغيرها من بلاد العالم القديم. وقد اعتمدت فى هذا الكتاب استعمال لفظة "التوراة" تبسيطا للدلالة على كامل ما يسميه المسيحيون "العهد القديم" من الكتاب المقدس.
والكتاب يفرق بين مفهومى (اليهود وبنى إسرائيل) ويرى أن بنى إسرائيل كانوا فى زماهم شعبا دان باليهودية، وقد كان لهم، بين القرن الحادى عشر والقرن السادس قبل الميلاد، ملكا فى بلادة السراة (أى فى جنوب الحجاز وفى المنطقة المعروفة اليوم بعسير)، وقد زال هذا الشعب من الوجود بزوال ملكه، ولم يعد له أثر بعد أن انحلت عناصره وامتزجت بشعوب أخرى.
فراس السواح.. الحدث التوراتى والشرق الأدنى القديم؟
ومن جانبه رد المفكر العربى فراس السواح على هذ الأفكار بكتابه "الحدث التوراتى والشرق الأدنى القديم: هل جاءت التوارة من جزيرة العرب؟" ورفض فيه التناقضات التى سببها إسقاط الحدث التوراتى تاريخيا وجغرافيا على المنطقة الواقعة بين نهرى النيل والفرات وقدم فيه اﻷسباب التى تدفعه إلى رفض هذا اﻹسقاط ومن ثمّ البحث عن مسرح جديد لقصص التوراة، ولانعدام اﻷدلة الأثرية قرر أن يخوض تجربة المقرابات اللغوية وهى تجربة محفوفة بالمخاطر، وباحتمالات الوقوع فى الخطأ، من أجل العثور على مسرح شبيه من حيث اﻷسماء بالمسرح الذى ترسمه التوراة ﻷحداثها، فكانت عسير المسرح الجديد الذى اقترحه الصليبى.
وفى الكتاب يفترض فراس السواح أن فلسطين هى أرض الحدث التوراتى، لكنه يميز ضمن هذا الحدث بين التاريخى واللاتاريخى وبين الواقعى واللاواقعى، معتبرا بالاستناد إلى أسفار التوراة أن كثيرا من قصص التوراة قد تطبعت بطابع أسطورى أو ملحمى.
ويأخذ السواح على كمال الصليبى قيام منهجه "على القبول بالرواية التوراتية باعتبارها تاريخا مؤكدا مسلما بصحته، والشك فى جغرافيتها" وذلك خلافا لمعظم الباحثين المعنيين الذين صاروا، فى السنوات الأخيرة، لا ينظرون إلى الرواية التاريخية التوراتية باعتبارها "تاريخا حقيقيا غير خاضع للمناقشة أو النقد"، كما يأخذ عليه تجاهله "كل نتائج علم الآثار فى فلسطين وبلاد الشام" واعتماده فى الأساس على المقابلة بين أسماء الأماكن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة