لم يتخيل قراء مجلة الرسالة يوم 23 فبراير من عام 1953 أن يخرج عليهم العدد رقم 1025 من المجلة الثقافية الأبرز "الرسالة" بعنوان "الرسالة تحتجب بعد نحو 20 عاما من صناعة الثقافة والوعى فى مصر.
تعد مجلة الرسالة واحدة من أشهر المجلات الثقافية فى تاريخ مصر رأس تحريرها الأديب المصرى أحمد حسن الزيات (1885-1968) وانطلقت فى عام 1933م، وكتب رموز الأدب والفكر العربى آنذاك مثل (زكى نجيب محمود العقاد، أحمد أمين، على الطنطاوي، محمد فريد أبو حديد، أحمد زكى باشا، مصطفى عبد الرازق، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، محمود محمد شاكر والشابى).
وجاء تحت عنوان "الرسالة تحتجب" مقالة لرئيس التحرير أحمد حسن الزيات:
فى الوقت الذى كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة فى وادى النيل، وزعماء الأدب والعلم فى أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر؛ وفى الوقت الذى أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال فى الظلام، وافتر ثغر الأمل، وشعر كل مصرى فى ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو، وعمله إلى نمو، وأمره إلى استقرار؛ نعم فى هذا الوقت الذى نشأ فيه لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط (الرسالة) فى ميدان الجهاد الثقافى صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح، ونفد من مزودها آخر كسرة؛ فكأنها جندى قاتل اليهود فى فلسطين على عهد فاروق، أو فدائى جاهد الإنجليز بالقناة فى حكومة فاروق! ولكن فاروقاً دال ملكه وزال حكمه، فبأى سبب من أسباب الفساد يؤتى المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه؟
وما أحب أن أحمل تبعة ما أصاب الرسالة والثقافة على زهادة الناشئين فى الأدب الجد، ولا على فشل المعلمين فى تعليم القراءة؛ فإنا اخترنا هذا النوع من الصحافة ونحن نعلم ما يعترضه من عوائق، وما يكتننفه من مكاره، أقلها هذه الأمية المدرسية التى تقنع من الثقافة (بفك الحظ) وقشور العلم، فلا تهيئ المصاب بها إلا للقراءة السهلة الضحلة، ليرى نكتة تملأ فمه بالضحك، أو صورة تدغدغ جسده بالشهوة!
اخترنا هذا النوع من الصحافة المجاهدة المستشهدة، ووقفنا بالرسالة على الأعراف بين آخر النقص وأول الكمال، تأخذ بيد الأدنى ليصعد، ونثبت قدم الأعلى ليستمسك؛ ثم تدفع
المرتفع صعداً فى السماء ليكون باستعداده أقرب إلى الحق المطلق والخير المحض والجمال الكامل.
وبحسبنا أن يصحبنا فى هذا الطريق من تهبهم فطرهم السليمة لبلوغ الغاية منه، وهم بحكم الندرة فى الكمال والكرم قلة. ومن السهل القريب أن تصلح القلة لتصلح الكثرة، وأن ترفع الخاصة لترفع العامة. وليس وراء القلة مال يبتغى ولا جاه يرتجى، وإنما سبيل المال والجاه لمن أرادهما، العامة يستميلها بالتهريج، والسياسة يستغلها بالدجل، والحكومة يستدرها بالملق، والعدة إلى ذلك يسيرة المنال: حنجرة صلبة تخطب، ويراعة مداهنة تكتب، ونية فاسدة تملي! ولو أرادت (الرسالة) زهرة الحياة الدنيا لعرضت ضميرها للبيع وقلمها للإيجار. ويومئذ تتحول أكداس الورق فى مطبعتها العجيبة من أوراق طبع إلى أوراق نقد!
ولكن الله الذى يحبب فى سبيله إلى المجاهد الاستشهاد وليس فى مزوده إلا حفنة من سويق أو قبضة من تمر، حبب إلى (الرسالة) الجهاد فى الميدان المجدب الموحش ولا عدة لها إلا الصدق والصبر والزهد، لتظفر بنصر المجاهد إذا فاز، أو بأجر الشهيد إذا قتل!
إنما التبعة فى خذلان الرسالة والثقافة على الحكومة بوجه أعم، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص.
كانت الحكومات الحزبية لا رحمها الله تخاف ولا تختشي، كانت تبذل العون فى صور المختلفة للمجلات التى تعارض لتسكت، وللمجلات التى تؤيد لتقول، أما الصحف التى لا نملك لها نفعاً ولا ضراً فى سبيل الحكم والغنم، فكانت لا تلتفت إليها إلا كما تلتفت إلى الشعب المسكين: تأمره ليطيع، أو تسخره ليعمل، وما كانت طاعته أو عمله فى رأيها إلا واجباً مفروضاً لا شكر عليه ولا أجر له!
ومن عدلها الذى أخجل عدل عمر أنها أرسلت إلى الرسالة مأمور الضرائب الذى ترسله إلى الجرائد العظمى، والمجلات السياسية الكبرى؛ فلما رأى إيرادها ثلاثة أرقام وربحها رقماً أو صفراً، أخذه الدهش، وملكه العجب، وقال بلهجة المستنكر: كيف يكون إيراد المصور وأخبار اليوم وروز اليوسف كذا متعددة، ويكون إيراد الرسالة كذا واحدة؟! لا بد أن يكون السجل ناقصاً والدفاتر مزورة! ورفض المأمور الذكى الدقيق الوثائق وعمد إلى
التقدير الجزاف، فصال وجال، وتخيل ثم خال، وفرض فيما فرض أن فى كل عدد من أعداد المجلة خمسين إعلاناً على التقدير الأقل، أجرتها فى الأسبوع كذا، وفى السنة كذا؟ فلما نبهته عيناه اللتان فى رأسه إلى أن كل عدد لا يزيد ما فيه على إعلانين فى الواقع، أمرهما ألا تدخلا فيما لا يعنيهما! ومضى بسلامة الله يكره القواعد الأربع على أن (تعمل له حساباً) كما فكر وقدر، حتى بلغت جملة ما على الرسالة لمصلحة الضرائب: (24855) جنيهاً فى سبع سنوات! فكم كان الربح إذن! وهالت أرقام هذا التقدير (لجنة التقدير) فخفضتها إلى (12607) بالتقدير الجزاف أيضاً، ثم حجزت على المطبعة والدار، وأمرتنا بتنفيذ هذا القرار! ولما لجأنا إلى القضاء عوقه محاموها سنتين عن الفصل، وما زالوا يعوقونه بالتأجيل العابث، والمصلحة لا تكترث ولا تهتم ما دامت تطالب وتهدد، والممول يسارع ويسدد!
ثم كانت الحكومة تبعث إلى الرسالة ببعض الفتات من إعلانات الوزارات فى حدود الفائض من الصحف المؤيدة، فلما نقصت الموارد وضاقت الميزانية قصوا الأطراف الزوائد من (المصروفات) فكان منها على زعمهم نصيب المجلات الأدبية!
أما التبعة التى على وزارة المعارف خاصة فهى أثقل من أن يحملها ضمير مسئول، كانت هذه الوزارة ولا تزال تعين المدارس الحرة، وتمون المكتبات العامة، وتعول الفرق التمثيلية، وتدير الجامعة الشعبية، وتعنى بألوان الثقافة على الجملة، ولكنها - وا عجباً - لم تدرك إلى اليوم أن المجلة الأدبية الجدية مدرسة متنقلة، وتفعل ما لا تستطيع أن تفعله الوزارة نفسها من إحياء اللغة، وإنهاض الأدب، وتبسيط العلم، وتعميم الثقافة، وتوجيه الرأي، وتأليف القلوب، وتوحيد العرب، والسفارة بين مصر وأقطار العروبة، والتمكين لزعامتها الفكرية فى بلاد الشرق فلو أنها أدركت ذلك لأعانت المجلات الأدبية على أداء رسالتها ببعض ما تعين به معاهد التعليم ومسارح لتمثيل ومراكز الثقافة؛ ولكنها - وا أسفا - لم تدرك منذ العام الماضى إلا أن اشتراكها فى خمسمائة نسخة لمدارسها مكتباتها من الرسالة والثقافة، هو الذى أثقل كفة المصروفات فى ميزانية التعليم فألغته لتعتدل الكفتان! وبهذه القشة المباركة قصمت ظهر البعير!
كانت الرسالة منذ فحش غلاء الورق، وقدحت نفقات الطبع، تكفى نفسها أو تخسر قليلاً، وكنا نواجه هذه الحال بالتعفف والتقشف والصبر فتنساغ مرارتها أو تخف، فلما شاءت الضرائب ألا تعقل، وأرادت الحكومة ألا تعلن، وقررت المعارف ألا تشترك، أخذت الخسارة تنمو وتطرد حتى بلغت فى العام المنصرم ألفاً ومائة وعشرين جنيهاً، فرأينا فى مطلع هذا العام أن تقوى الرسالة لتصمد، وأن نعيد (الرواية) لتساعد، فإذا بالخسارة تتسع، وبالطاقة تضيق، وبالأزمة تشتد، وبالأمل يضعف؛ فلم نجد بداً من الإذعان لمشيئة القدر!
لقد قلنا يوم بلغت الرسالة عددها الألف أو عامها العشرين: (إنا نطمع فى فضل الله أن تزيد الرسالة قوة فى عهد مصر الجديد، وما تسأل الرسالة العون إلا من الله، فقد عودها جل شأنه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وفيما ينوب من مكروه، ولعل السر فى بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقلة حيلتها، أنها عفت عن المال الحرام فلا تجد لها اسماً فى (المصروفات السرية)، ولا فعلاً فى المهاترات الحزبية، ولا حرفاً من الإعلانات اليهودية.
وإذا لم يكن للفضيلة رواج فى عهد غرق فيه (القصر) فى الفحش والمنكر والبغى والاغتصاب والاستبداد والقتل، وارتطمت فيه (الحكومة) فى الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجوا أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، فى عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله محمد نجيب،
ولكن القضاء غالب، والرجاء فى الله أولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة